تهديدات السيد حسن.. وحسابات اليهود في قبرص!
تحذيرات وتهديدات السيد حسن نصر الله أعادت الجزيرة "الصغيرة"، كما سماها السيد حسن، إلى واجهة الحسابات الإقليمية والدولية بسبب موقعها الاستراتيجي الحساس في شرقي الأبيض المتوسط.
بعد أن حذّر السيد حسن نصر الله الحكومة القبرصية "من فتح مطاراتها وقواعدها لإسرائيل لاستهداف لبنان"، عادّاً ذلك "موقفاً رسمياً، معناه المشاركة في الحرب إلى جانب إسرائيل"، وقال "إننا سنتعامل مع قبرص كأنها جزء من الحرب"، لم يتأخر الرئيس القبرصي، نيكوس خريستودوليدس، في الرد على هذا التحذير، وقال إن بلاده لا تشارك في أي شكل من الأشكال في الحرب التي تشنها "إسرائيل" على غزة وجنوبي لبنان، وأكد أن "جمهورية قبرص جزء من الحل، وليست جزءاً من المشكلة".
تحذيرات وتهديدات السيد حسن نصر الله أعادت الجزيرة "الصغيرة"، كما سماها السيد حسن، إلى واجهة الحسابات الإقليمية والدولية بسبب موقعها الاستراتيجي الحساس في شرقي الأبيض المتوسط، حيث السيناريوهات المتعددة بعد اكتشاف الغاز في جوارها وجوار "إسرائيل" وغزة ومصر.
ففي قبرص قاعدتان بريطانيتان، هما ديكيليا وأغراتور، وتستفيد منها فرنسا وأميركا، وحتى الكيان الصهيوني، الذي وقع عدداً من اتفاقيات التعاون مع القبارصة اليونانيين، عسكرياً واستخبارياً، بعد ما يسمى "الربيع العربي".
وتجري القوات الإسرائيلية بين الحين والحين مناورات مشتركة مع القوات القبرصية اليونانية مع المعلومات التي تتحدث باستمرار عن وجود استخباري إسرائيلي كبير في الشطر الجنوبي للجزيرة، والذي يمثل جمهورية قبرص المعترف بها دولياً، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي. ويجدر التذكير بأن القبارصة اليونانيين اتخذوا موقفاً معادياً لروسيا في الحرب الأوكرانية على الرغم من مذهبهم الأورثوذكسي، وهو مذهب الروس، حالهم حال اليونان أيضاً. وهي أيضاً مع أميركا والحلف الأطلسي ضد روسيا.
وهنا، لا بد لنا من أن نعود إلى حلم اليهود الأول في قبرص، والتي كانت جزءاً من الدولة العثمانية اعتباراً من عام 1571 حتى عام 1878، عندما قام السلطان عبد الحميد بتأجيرها خمسين عاماً لبريطانيا في مقابل أن تساعده في الحرب ضد روسيا.
كان يوسف ناسي، وهو من يهود البرتغال الذين هاجروا إلى بريطانيا بعد سقوط دولة الأندلس الإسلامية في إسبانيا، ثم إلى هولندا، ثم إيطاليا واخيراً إسطنبول (عام 1553)، بحيث عمل مستشاراً مالياً للسلطان سليمان القانوني، الذي كانت والدته وزوجته يهوديتين. وقيل إنه طلب إلى السلطان سليمان أن ينصّبه ملكاً على قبرص بعد فتحها من جانب العثمانيين. وخابت آمال ناسي بعد اعتراض رئيس وزراء سليمان القانوني على ذلك، بعد اتفاقية الصلح مع ملك البندقية. ودفع ذلك ناسي إلى الاكتفاء بقطعة أرض عند ضفاف بحيرة طبريا منحها له سليمان القانوني في مقابل مئة ليرة ذهبية.
واستمرّ الاهتمام اليهودي بقبرص في عهد رئيس وزراء بريطانيا اليهودي بنيامين ديسرائيل، الذي قام بنقل عدد من العائلات اليهودية من رومانيا إلى قبرص.
وفي رسالة بعثها إلى اللورد روتشيلد في تموز/يوليو 1902، كتب مؤسس الحركة الصهيونية هرتزل يقول "علينا أن نرتب أمورنا في قبرص، ثم نكثف اهتمامنا بفلسطين. ولا بد لنا من أن نأخذها. فإذا غادر المسلمون قبرص فحينها سيقوم القبارصة اليونانيون ببيع أراضيهم ويهاجرون إلى اثينا أو جزيرة كريت. وأنت تعلم بأن فلسطين صغيرة بالنسبة إلى اليهود، وما علينا إلا أن نسيطر على مكان ما قريب منها، وأن نضم قبرص والعريش إلى مخططاتنا في فلسطين".
ومن دون الدخول في تفاصيل الاهتمام اليهودي بقبرص، وهو ما تحدثتُ عنه في كتابي "فلسطين لي أنا"، الذي صدر عام 2020 باللغة التركية، أَولى اليهود وجميع منظماتهم الصهيونية اهتماماً خاصاً بالجزيرة التي نُقل إليها الآلاف من اليهود من مختلف الدول الأوروبية في البداية للبقاء فيها، وثانياً كمحطة استراحة وهم في طريقهم إلى فلسطين. ووصل عددهم في عام 1946 إلى 60 الفاً.
وعلى سبيل المثال، اقترحت الحركة الصهيونية في عام 1939، خلال ذروة القضية الفلسطينية، على وزير المستعمرات أنطوني إيدين ورئيس الوزراء البريطاني تشامبرلين، وبعده ونستون تشرشل، خطة عاجلة تهدف إلى نقل الآلاف من القبارصة اليونانيين إلى سالونيكي في مقابل نقل يهود سالونيكي إلى قبرص.
واستمر الاهتمام الصهيوني بقبرص بعد قيام الكيان الصهيوني، انطلاقاً من أن الجزيرة، التي استقلت عن بريطانيا عام 1960، هي الدولة الوحيدة غير العربية التي تجاور "إسرائيل"، والتي لم تفوّت أي فرصة في الوجود في شطريها اليوناني والتركي، وخصوصاً بعد التدخل التركي العسكري، وتقسيم الجزيرة عام 1974.
أسس اليهود، من جنسيات متعددة، مجموعة من الشركات في عدد من القطاعات، وخصوصاً المالية، والتي تحولت لاحقاً إلى مراكز تغطي نشاط "الموساد"، ليس فقط ضد الفلسطينيين، بل ضد أي نشاط عربي أو إسلامي قد يشكل خطراً على "إسرائيل". ونجح رجال الأعمال اليهود، عبر دعم من الكيان الصهيوني، وحتى من بريطانيا وأميركا، في أداء دور مهم في التقارب الاستراتيجي بين "تل ابيب" ونيقوسيا، اللتين وقّعتا خلال الأعوام الأخيرة عدداً من اتفاقيات التعاون في كل المجالات.
ولا يعني ذلك أن اهتمام الكيان الصهيوني كان مقتصراً على الشطر الجنوبي فقط، بل تجاوزه إلى الشطر الشمالي التركي، بحيث يتحدث الإعلام هناك باستمرار عن نشاط سري وعلني للمنظمات اليهودية والصهيونية، عبر بناء المنتجعات السياحية لليهود والمجمعات السكنية (مستوطنات) وشراء آلاف الدونمات من الأراضي، وتأسيس عدد من الشركات التي تعمل في الشطر الشمالي، ويقال إن لها علاقة بـ"الموساد"، الذي له نشاط كبير في الشطر الشمالي من قبرص، وفق الإعلام المحلي.
وهي الحال بالنسبة إلى مرفأ السفن السياحية، الذي تقوم شركة يهودية بتشغيله، وسمي باسم The Gate، تذكيراً بما قاله هرتزل لروتشيلد، ومفاده أن الجزيرة بوابة اليهود إلى فلسطين، والعكس صحيح أيضاً، أي أنها بوابتهم للهرب عبرها من فلسطين، عندما يزحف العرب إليها من كل حدب وصوب، وفق أساطيرهم التاريخية ونصوصهم الدينية.
ويتهم بعض المراقبين "تل أبيب" بعرقلة الحل للمشكلة القبرصية منذ ستين عاماً، ليتسنى لها استغلال الطرفين من القبارصة الأتراك واليونانيين. ويذكًر المراقبون بتعيين الدبلوماسيين اليهود ممثلين شخصيين عن الرؤساء الأميركيين في قبرص.
ومن هؤلاء الدبلوماسيين كلارك كليفورد وجورج هاريس وريتشارد هاس ونيلسون ليدسكي وريتشارد هولبروك وألين لايبسون، ربما لأن لقبرص مكانة خاصة في عقيدة المحافظين الجدد، الذين يعدونها بوابتهم إلى فلسطين لمساعدة اليهود في حربهم الدينية الكبرى، قبيل يوم القيام (أرماغادون)، كما كانت قبرص بوابة الصليبيين في حربهم ضد المسلمين، وهم في طريقهم إلى فلسطين.