تحريك ترامب لغواصات نووية بالقرب من روسيا.. حسابات الردع والاحتواء
في عالم تزداد فيه الخطوط الفاصلة بين الجد والهزل، والخطاب الإعلامي والسلوك العسكري، تبدو الحاجة ماسة إلى إعادة ضبط العلاقة بين أدوات القوة والتواصل السياسي.
-
تحريك ترامب لغواصات نووية بالقرب من روسيا.. حسابات الردع والاحتواء
في خطوة أثارت الكثير من الجدل والسخرية، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه أصدر أوامر بتحريك غوّاصتين نوويتين أميركيتين بالقرب من المياه الإقليمية الروسية، ردّاً على ما اعتبره سلسلة منشورات عدائية صدرت عن نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف.
وبينما انقسمت الآراء حول ما إذا كان ترامب أراد من هذه الخطوة توجيه تهديد فعلي لروسيا، أم أنه أراد لها أن تكون مجرّد استعراض إعلامي، فإنّ هذه الخطوة تثير تساؤلات جوهرية حول التوجّهات الجيوسياسية الأميركية في ظل التوتر المتصاعد مع القوى الأوراسية، وعلى رأسها روسيا والصين، خصوصاً في ظلّ استمرار تأثير التيار المحافظ الجديد على السياسة الخارجية الأميركية حتى في ظل ترامب.
استراتيجية الردع الأميركية
منذ نهاية الحرب الباردة، اعتمدت الولايات المتحدة استراتيجية تقوم على تطويق واحتواء القوى الكبرى في أوراسيا، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي ومن بعده روسيا الاتحادية، بناء على المقاربة النكلوساكسونية التي تعتبر أنّ العمق الأوراسي الذي تمثّله روسيا يمثّل منطق التهديدات الجيوسياسية التي يمكن أن تتحدّى الهيمنة الإنكلوساكسونية على العالم والتي كانت قد انطلقت منذ القرن الثامن عشر مع بريطانيا لتنتقل الريادة إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وفي هذا السياق، تأتي خطوة ترامب بتحريك غوّاصات نووية أقرب إلى السواحل الروسية كجزء من عرض عضلات نووي يذكّر بأسلوب "الدبلوماسية النووية" الذي مارسته واشنطن في أزمات سابقة، كأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.
لكنّ هذه الخطوة، رغم طابعها الانفعالي الذي ترافق مع إطلاق شتائم عابرة للقارات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تتضمّن رمزية استراتيجية ذات أبعاد متشعّبة. فهي تعكس تصميم الولايات المتحدة، وخصوصاً تيار المحافظين الجدد فيها على عدم السماح لروسيا باستعادة نفوذها أو تعزيز دورها العالمي.
لا يمكن فهم دوافع مثل هذه التصرّفات من دون النظر في الخلفيّة الأيديولوجية التي تغذّي السياسة الخارجية الأميركية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، أي صعود تيار المحافظين الجدد. هذا التيار الذي صعد في الولايات المتحدة منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، والذي وصل إلى ذروة نفوذه خلال إدارة الرئيس جورج بوش الابن (2001 – 2009)، وامتد نفوذه عبر العهود الرئاسية المتعاقبة وصولاً إلى الولاية الثانية للرئيس ترامب، يرى في روسيا والصين تهديداً مزدوجاً للهيمنة الأميركية في العالم.
من هذا المنطلق، ليس مستغرباً أن يتمّ استغلال أيّ حدث، حتى لو كان ناجماً عن احتكاك على وسائل التواصل الاجتماعي، للمبالغة بما يعتبره المحافظون الجدد التهديد الروسي، وتعزيز سردية مفادها أنّ موسكو تسعى لتقويض الاستقرار العالمي عبر "الابتزاز النووي"، وهو ما يوجب ردّاً أميركياً قوياً واستباقياً، على حدّ ما يزعم هؤلاء. من هنا فإن المحافظين الجدد الذين كانوا يحاولون تصوير مدفيديف، على أنه يمثّل التيار الليبرالي داخل الدولة الروسية في مقابل تصوير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه من الصقور، قلبوا اليوم الصورة وباتوا يصوّرونه في الإعلام على أنه يمثّل الصوت الراديكالي المتطرّف داخل الإدارة الروسية يتطرّف في مواقفه المعادية للغرب. وقد استغلّ هؤلاء تصريحات لمدفيديف رداً على تصاعد التهديدات الغربية لروسيا لوّح فيها باعتماد نظام "اليد الميتة" الروسي الذي يضمن الردّ النووي التلقائي في حال دُمّرت القيادة السياسية الروسية، وذلك رداً على التهديدات الأميركية والغربية المتصاعدة للأمن القومي الروسي. وقد وجدت جهود المحافظين الجدد بشيطنة روسيا وخصوصاً مدفيديف صدى في أوساط النخبة الأميركية المحافظة التي لطالما دعت لاعتماد سياسات أكثر عدوانية تجاه موسكو.
الرسائل السياسية لترامب
يبدو أنّ المحافظين الجدد استطاعوا تطويع ترامب الذي شكّل في السابق تحدّياً لهم في إطار الشعارات التي أطلقها والتي وعد فيها بضرب الدولة العميقة في الولايات المتحدة والتي يشكّل المحافظون الجدد أحد أعمدتها. وقد تجلّى هذا في إفشال مساعيه لإنهاء الحرب الأوكرانية التي تشنّها واشنطن ومعها الغرب بالوكالة ضد روسيا. ويبدو أنّ الرئيس الأميركي الجديد بات أسيراً لسياساتهم التي بات يقولبها بطابعه الشخصي الذي يغلب عليه عنصر العشوائية التي لا يمكن توقّعها. والجدير ذكره أنّ ترامب سبق واتخذ خطوة مماثلة في ولايته الأولى في العام 2017 حين أرسل غوّاصتين نوويتين بالقرب من شواطئ كوريا الشمالية قبل أن يفاجئ العالم بلقاءاته الحميمة مع الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون.
من هنا فإنّ كثيرين احتاروا ما إذا كانت خطوة ترامب بتحريك غوّاصتين بالقرب من الحدود الروسية تشكّل رسالة تهديد للقيادة الروسية، أو أنها تشكّل مناورة منه للالتفاف على أركان الدولة العميقة في الولايات المتحدة للتمهيد لمرحلة تفاوضية لاحقة مع روسيا، وربما حتى لإنهاء الحرب في أوكرانيا من موقع قوة. فترامب لطالما صرّح بأنّ الحرب في أوكرانيا ما كانت لتحدث لو كان هو من يتولّى السلطة في البيت الأبيض، علماً أنه يعتمد استراتيجية يحاول من خلالها تقديم نفسه بصفته الزعيم القادر على فرض السلام من خلال الردع والقوة.
قد يكون هذا هو السبب في الهدوء الذي قابل به الروس خطوة ترامب التصعيدية إذ إنّ الكرملين ووزارة الدفاع الروسية لم تتكبّدا حتى عناء إصدار أيّ بيان أو تعليق رسمي، في مؤشّر على أنّ موسكو لا ترى في تصريحات ترامب تهديداً حقيقياً. حتى أنّ الصحف الروسية سخرت من تصريحاته، ووصفتها بأنها ناجمة عن نوبة غضب وأنها خطوة جوفاء لا تشكّل تهديداً عسكرياً جدياً. والجدير ذكره أن هذا يعكس ثقة روسية بأنّ الولايات المتحدة، حتى في أكثر لحظات تصعيدها اللفظي، ما زالت محكومة باعتبارات الردع النووي المتبادل. كما أنّ موسكو تدرك جيداً أنّ تصريحات ترامب غالباً ما تُستخدم للتأثير الإعلامي والسياسي أكثر من كونها تشكّل سياسة خارجية ممنهجة.
خاتمة
لكن ما يثير القلق في هذا المشهد هو انزلاق التهديدات النووية والقضايا المرتبطة بالردع النووي إلى مستوى من التهريج الإعلامي، إذ ينظر إلى تصريحات الزعماء على وسائل التواصل الاجتماعي كعوامل مؤثّرة وحاسمة في تحريك القوات النووية. وهذا بحدّ ذاته يعدّ تطوّراً خطيراً في العلاقات الدولية في بنية النظام العالمي، حيث لم يعد اتخاذ قرارات استراتيجية يرتكز على مؤسسات وخطط مدروسة، بل على ردود فعل شخصية وانفعالية، كما في حالة ترامب.
فلقد بات تبادل التغريدات أو المنشورات بين قادة الدول النووية من شأنه أن يؤدي إلى تحريك غوّاصات نووية، فإنّ العالم يدخل بذلك مرحلة جديدة من الهشاشة الاستراتيجية، تتصاعد فيها احتمالات الانزلاق إلى صدام نووي مدمّر.
وفي عالم تزداد فيه الخطوط الفاصلة بين الجد والهزل، والخطاب الإعلامي والسلوك العسكري، تبدو الحاجة ماسّة إلى إعادة ضبط العلاقة بين أدوات القوة والتواصل السياسي، قبل أن يتحوّل الجدل بين القادة على وسائل التواصل الاجتماعي إلى كارثة نووية يمكن أن تفني العالم.