بين أكتوبر 1973 وأكتوبر 2023... المقاومة تكمل معركة التحرير بعد خمسين عاماً
بالنسبة للولايات المتحدة فإنّ تطبيق المشروع الذي بدأ قبل 50 عاماً كان قد شارف على الانتهاء، لولا قيام المقاومة في الأرض المحتلة بنسف كلّ هذا المشروع برمّته.
بين الـ 6 من تشرين الأول/أكتوبر 1973 والـ 7 من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 كأنّ الزمن توقّف لمدة 50 عاماً، وكأنّ العالم العربي دخل في سبات أهل الكهف لمدة 50 عاماً ليكمل حياته في اليوم التالي بعد 50 عاماً في الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
في الـ 6 من تشرين الأول/أكتوبر 1973 كان موعد العرب مع هجوم منسّق على جبهتين في مصر وسوريا ضد العدو الصهيوني، هذا الانتصار العسكري في الميدان الذي أجهضته سياسة أنور السادات الذي استعمل الحرب من أجل الدخول في مفاوضات كان من شأنها أن تدخل العالم العربي في أتون ضياع مدته 50 عاماً وأن تجرّ الويلات على العرب.
مرحلة الضياع
في الـ 28 من أيلول/سبتمبر 1970 توفّي جمال عبد الناصر وتوفّي معه مشروع المواجهة مع الغرب، ومع أداة هذا الغرب في فلسطين والمتمثّلة بالكيان الصهيوني، ليدخل بعدها العالم العربي في ظل مرحلة جديدة كان عنوانها الأبرز هو أنور السادات، الذي بدأ بإرسال الإشارات عن استعداده للدخول في مفاوضات وسلام مع الكيان الصهيوني بعد أيام قليلة من وفاة جمال عبد الناصر.
ولأنّ الصهاينة لم يستجيبوا مع غزله ومطالباته المتكرّرة، فإن السادات كان عليه أن يواجه ضغط الشارع في مصر، وأيضاً ضغط الجيش المصري الذي كان يطالب بشنّ الحرب لتحرير الأرض التي احتلتها "إسرائيل" في العام 1967. كذلك كان عليه أن يواجه غضب الشارع العربي الذي كان يطالبه بشنّ الحرب واستعاده الكرامة التي فقدها العرب بعد حرب العام 1967.
من جهة أخرى كان على السادات أن يواجه تنكّر "إسرائيل" لمطالبه بتوقيع اتفاقيه سلام، وذلك لأنّ "إسرائيل" كانت تريد إحداث ما لا يمكن أن تقبل به مصر ولو كان السادات على رأسها، وهو تغيير الجغرافيا السياسية لكلّ المنطقة العربية بما يلائم التصوّرات الإسرائيلية، ويتلاءم مع تصوّرات الهيمنة الصهيونية في منطقة المشرق العربي.
كان مقدّراً لهذا العالم العربي أن يدخل في مرحلة الضياع ومرحلة الشرذمة والصراعات العربية -العربية التي ستكون على حساب الأمن القومي العربي. كيف لا ومصر هي التي يمكن لها أن تحدّد عناصر رئيسية لهذا الأمن القومي العربي خصوصاً أنها تشكّل قلب هذا العالم، وكانت التصوّرات المصرية في العالم الحديث هي التي حدّدت عناصر هذا الأمن القومي العربي، وهي التي ساهمت في تحرير البلدان العربية التي كانت تحت الاستعمارين البريطاني والفرنسي من هذا الاستعمار.
فإننا نرى أنه في مرحلة النهوض في مصر في زمن عبد الناصر تحرّرت المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا والسودان والصومال والجيبوتي والخليج ومنطقه المشرق، ولم يبقَ لنا إلا تحرير فلسطين.
لكن خيار السادات بالدخول بالمفاوضات وتغليب المصالح القطرية المصرية على المصالح العربية، تحت شعار مصر أولاً، هو الذي سيفتح المجال أمام الضياع العربي، والدخول في عمليه التناحر العربية-العربية، وذلك تحت شعار الُقطر أولاً، فكان شعار لبنان أولاً والعراق أولاً والسعودية أولاً وغيرها أولاً، والذي سيثبت مع الوقت أنّ كل هذا ما كان إلا شعاراً يغطّي أنّ كلّ العالم العربي قد أصبح مع كلّ أقطاره أخيراً.
الصراعات الدموية والعبثية
وسيدخل هذا العالم العربي في مرحلة دموية من تاريخه بصراعات ستكون مكلفة أكثر بكثير من تلك التي تكبّدها في المواجهة مع العدو الصهيوني. فعام 1975 تندلع الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عاماً وذهب ضحيتها نحو 150 ألف لبناني وفلسطيني، عدا عن المفقودين والمشرّدين والمهجّرين من لبنان، والذين يعدّون بمئات الآلاف إن لم يكن بالملايين.
كما شهدت هذه المرحلة مرحلة المذابح التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني في الأردن في العام 1970، ثمّ في لبنان خلال مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية والاضطهاد الذي سيعانيه هذا الشعب في عدد من الأقطار العربية تحت شعارات متعددة دائماً كانت ترفع سيادة القطر على ما عداه.
كذلك الأمر فإنّ هذه المرحلة ستشهد حروباً عبثية تتمثّل بشنّ العراق البعثي في ظل صدام حسين لحرب ضد إيران كبّدت العراق مئات الآلاف من القتلى الذين سقطوا في معركة عبثية، عوض أن يسقطوا في معركة تحرير فلسطين، كما أنها كبّدت العراق الكلفة الكبيرة جداً في بنيته التحتية وفي اقتصاده، والتي ستؤدي به إلى أزمة ستليها أزمة أخرى سيضطر خلالها لغزو الكويت مع ما لذلك من آثار مدمّرة على العراق خلال 13 عاماً من الحصار لهذا البلد من قبل الولايات المتحدة، والتي انتهت أيضاً بغزو مدمّر لهذا البلد في العام 2003، هذا الغزو الذي لم تنتهِ آثاره على العراق حتى يومنا هذا، وهو لا يزال يقبع تحت الاحتلال الأميركي.
أيضاً هذه المرحلة شهدت حروباً عبثية شنّها معمر القذافي في إقليم أوزو في جنوب ليبيا، وحرباً طويلة مع التشاد ومع فرنسا في تشاد، والتي استنزفت ليبيا إلى أبعد حد وأدخلتها فيما بعد في صراع مع الولايات المتحدة، التي فرضت حصاراً على هذا البلد لن ينتهي إلّا بالإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي في العام 2011 وما تلاها من تدمير لليبيا، وهو التدمير الذي لم تخرج منه هذه البلاد حتى يومنا هذا.
يضاف إلى ذلك المعارك العبثية التي خاضها السودان ضد جنوب السودان والتي لم تنتهِ إلا بانفصال الجنوب في العام 2011، عدا عن حركة انفصالية في المغرب العربي، وأيضاً أخرى في شمال العراق، وأيضاً غيرها في عدد من البلدان بما يزعزع أمن هذه البلدان. ويجب ألّا ننسى أيضاً الحرب الأهلية التي ستخوضها الجزائر لمدة عقد من الزمن بين عامي 1990 و1999 والتي استنزفت البلاد وأدخلتها في نوع من السبات السياسي دام حتى العام 2018.
مرحلة أوسلو و"الربيع العربي"
وفي خضمّ هذا الضياع كان رفع شعار فلسطين أولاً، وشعار القرار الوطني الفلسطيني المستقلّ كذريعة بيد ياسر عرفات ومنظمة التحرير للخوض في مفاوضات منفصلة مع "إسرائيل"، ستؤدي بها إلى اتفاقية أوسلو في العام 93 والتي أدخلت القضية الفلسطينية في ضياع ليس بعده ضياع، وهي التي ضيّعت حقّ الشعب الفلسطيني لثلاثة عقود لن يلقى فيها أي شيء من وعود الاستقلال وإقامة الدولة المستقلة.
بل إنّ الاستيطان زاد خلال هذه الفترة ليتجاوز بضعة آلاف كانوا في الضفة الغربية خلال مرحلة ما قبل أوسلو، ليزيدوا عن مليون مستوطن بعد مرحلة أوسلو. ولم يتحقّق لـ الشعب الفلسطيني أيّ مكسب أو أيّ تعهّد ممّا تمّ التعهّد له به في اتفاقية أوسلو من قبل الصهاينة ومن قبل الأميركيّين.
وما سيزيد الطين بلة هو قيام الأميركيّين بغزو العراق في العام 2003 كمقدّمة لتغيير في جيوب سياسة المنطقة العربية، وهو ما وقفت في وجهه المقاومة اللبنانية ومعها سوريا وإيران سدّاً منيعاً في العام 2006، فكان خيار الولايات المتحدة التوجّه نحو تغيير الأنظمة العربية كلّها، أكانت تلك التي تؤيّدها أو تلك التي تعارضها في إطار ما يسمّى بالفوضى الخلّاقة، فكان ما يسمّى بـ "الربيع العربي" هو المرحلة التالية من السلام الصهيوني في المنطقة، وهو إعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية وفقاً لإثنيات وعصبيات عشائرية وطائفية وقبلية، بما يتماهى مع الهوية الدينية العصبية لـ "إسرائيل" القائمة على هوية دينية يهودية.
من هنا فإنّ مرحلة "الربيع العربي" هي المرحلة التي ستشهد أكبر خطر على تاريخ هذه الأمة ومستقبلها، والتي ستتمثّل في محاوله تقسيم العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وتونس وأيضاً السودان والصومال، وحتى بعض الأخطار العربية الأخرى في إطار إعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة.
وهذا سيترافق أيضاً مع محاولة إعادة إنتاج هوية هذه المنطقة عبر محاوله إنتاج اتفاقات أبراهام، وهي تحت شعار التسوية بين الديانات الإبراهيمية، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، وذلك بإنتاج إسلام صهيوني على غرار المسيحية الصهيونية واليهودية الصهيونية، بما يتلاءم مع مخططات الولايات المتحدة بإقامة نظام محوره "إسرائيل"، وتكون المنطقة العربية مجاله الحيوي تابعة بالكامل للولايات المتحدة، وذلك في إطار الاستراتيجية الأميركية الكبرى في تطبيق أوراسيا بسلسلة أحلاف تمنعها من المرور إلى طرق الملاحة البحرية، أكان ذلك في البلطيق شمالاً أو البحر الأسود أو شرق المتوسط أو باب المندب والبحر الأحمر، أو مضيق هرمز والبوابة من الخليج إلى المحيط الهندي أو في جنوب شرق آسيا.
الشرق الأوسط الجديد
وقد وجدت الولايات المتحدة أنها قد وصلت إلى الحد الذي يمكنها فيه أن تضع مخطّطها قيد التنفيذ، فكان منها إطلاق مشروع الممرّ الهندي الشرق أوسطي الأوروبي في قمة العشرين، التي عقدت في نيودلهي في الهند في العام 2023، والتي كان من شأنها أن تقيم ليس فقط ممراً تجارياً يعرقل الممرّ التجاري أو مبادرة حزام وطريق التي أطلقتها الصين أو مبادرة شمال جنوب التي أطلقتها روسيا.
بل أيضاً من شأن هذا أن يرسل دعائم الشرق الأوسط الذي محوره "إسرائيل" وبشراكة مع دول عربية لم تكن رائدة في التاريخ العربي الإسلامي، مثل الأردن أو السعودية أو الإمارات، مع ضمان أن تكون هذه المنطقة صلة وصل بين منطقتين تابعتين للولايات المتحدة، وهما أوروبا تحت الهيمنة الأميركية والهند التي يحكمها حزب بهارات يا جناتا الهندوسي المتعصّب الذي يكره المسلمين، والذي كان قد أقام نوعاً من اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة و"إسرائيل" والإمارات العربية المتحدة تحت مسمّى "أي تو يو تو".
بالنسبة للولايات المتحدة فإنّ تطبيق المشروع الذي بدأ قبل 50 عاماً كان قد شارف على الانتهاء، لولا قيام المقاومة في الأرض المحتلة بنسف كلّ هذا المشروع برمّته.
فبالنسبة للولايات المتحدة فإن "إسرائيل" هي قاعدة هذا الشرق الأوسط الجديد، وحتى تكون هذه القاعدة صلبة يجب ألّا تكون مقسّمة بين شعبين، وأن تفرض "إسرائيل" سيطرتها على كامل التراب الوطني الفلسطيني أو كامل فلسطين التاريخية، كذلك فإنّ هذه القاعدة يجب ألّا تكون مقسّمة بالهوية، أي أنه يجب ألّا يكون فيها شعبان.
ولذلك يجب على الشعب الفلسطيني أن يرحل من أرضه من غزة والضفة الغربية وحتى من أراضي 48 لضمان يهودية "الدولة". كذلك يجب على هذه القاعدة أن تكون صلبة وألّا تكون مهدّدة من قبل فصائل المقاومة.
لذلك فإنّ "إسرائيل" كانت تخطّط لشنّ عملية ضد قطاع غزة تقضي فيه على المقاومة، وتقصف فيه المدنيين وذلك لتهجيرهم باتجاه سيناء التي ستصبح وطناً بديلاً بالنسبة للفلسطينيين من جهة، ويلي ذلك تهجيرها لفلسطيني الضفة الغربية باتجاه الأردن، وبعد ذلك الترانسفر لفلسطينييّ عام 48 من أرضهم، وبعد ذلك تعلن "إسرائيل" "دولة" يهودية ومحوراً لهذا الشرق الأوسط الجديد.
لكن المقاومة عرفت بموضوع الضربة التي كان يتحضّر لها بنيامين نتنياهو، وذلك عقب انتهاء الاحتفالات بيوم الغفران اليهودي، والتي كان يجب أن تنتهي في ليلة السبت من الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر في العام 2023.
مشروع المقاومة
في مقابل هذا المشروع الأميركي كان هنالك مشروع المقاومة الذي انطلق في الستينيات من القرن الماضي مع فصائل المقاومة الفلسطينية، والذي أخذ مداه مع المقاومة اللبنانية، وأهمّ فصيل فيها هو حزب الله، منذ العام 1982، والتي حقّقت انتصارات كبيرة في الأعوام 1985 و2000 و2006 لتشكّل رأس حربة لمواجهة المشروع الأميركي من جهة، ولتشكّل الرئة التي ستتنفّس منها المقاومة في فلسطين من جهة أخرى.
من هنا فإن حالة الردع التي حقّقتها المقاومة في لبنان مع العدو الصهيوني شكّلت القاعدة الأساسية لتعزيز المقاومة الفلسطينية لوضعها في غزة والضفة الغربية. وقد بنت المقاومة الفلسطينية عناصر القوة والردع مع العدو على مدى عقدين وصولاً إلى الـ 7 من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023.
لذلك فإن المقاومة التي عرفت بأمر الضربة استبقت ذلك بشنّ هجوم مباغت على منطقة غلاف غزة محقّقة عدة أهداف من حيث لا تدري، فهي من جهة وجّهت ضربة للعقيدة الإسرائيلية الأمنية التي تقوم على نقل المعركة إلى أرض العدو، كذلك فإنها وجّهت ضربة قوية لعقيدة الأمن القومي الصهيوني القائمة على تأمين ملاذ آمن لليهود في العالم، عدا عن أنها وجّهت الضربة لهذا الشرق الأوسط الجديد الذي تريد الولايات المتحدة إقامته عبر توجيه ضربة قاسية لقاعدة هذه المنظومة.
لذلك فإننا بعد 50 عاماً من السلام الأميركي الذي كان ينوي تصفية القضية الفلسطينية، ها هم الأميركيون بأنفسهم يعترفون بأن لا حلّ للقضية الفلسطينية إلّا بالعودة لحلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وهذا ما أعلنته أيضاً الدول الأوروبية، وهو ما توقّفت عنده أيضاً روسيا العائدة بقوة إلى منطقة الشرق الأوسط والطامحة بقوة للعودة إلى انتزاع حصة وازنة من مفاوضات السلام لذلك فهي تنهي 30 عاماً من الاحتكار الأميركي المطلق لهذا الملف.
من هنا فإنّ هذه الضربة التي وجّهتها المقاومة في الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر هي في حقيقه الأمر وجّهت ضربة قاسمة لمشروع تقوم الولايات المتحدة بتطبيقه بتدرّج منذ العام 73، وهي بذلك تكون قد استكملت نصراً عسكرياً حقّقته الجيوش العربية في الـ 6 من تشرين الأول/أكتوبر وأجهضته سياسة السادات بالتسوية، لتقوم باستكمال المعركة وإعادة إطلاقها باتجاه تحرير كامل تراب الوطني الفلسطيني بمعزل عن كل المطالبات الدولية، وأن العقود المقبلة وهي ليست بمرحلة طويلة ستشهد تزايداً في نضال الشعب الفلسطيني كمحور لنضال الشعب العربي بشكل عام، وذلك في إطار محاولته للتحرّر وصياغة مستقبله بمعزل عن تحكّم وسيطرة القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.