المغرب العربي وتبعات تجريم التضامن مع المقاومة

قلق الأنظمة المغاربية من مجرد تظاهرات التضامن مع القضية الفلسطينية ونصرتها على الرغم من جرائم الإبادة القائمة منذ أكثر من عام، يعني انتفاء السيادة والإرادة السياسية الحرة.

0:00
  • سيتوقف التاريخ مطولاً عند المواقف الشعبية والرسمية من القضية الفلسطينية.
    سيتوقف التاريخ مطولاً عند المواقف الشعبية والرسمية من القضية الفلسطينية.

وظفت الأنظمة العربية، على مدار أعوام، القضية الفلسطينية لتكون رافعة سياسية ومدخلاً للشرعية الشعبية، بسبب ما تمثله القضية الفلسطينية من مركزية في وعي الشعوب العربية ووجدانها. وبالتالي، كان ولا يزال ضمن معانٍ متعددة اقتراب النظام السياسي العربي الرسمي من القضية مؤشراً على الحيوية السياسية والعلاقة الطبيعية بين النظام الرسمي وسائر مكونات المشهد السياسي في أي بلد عربي.

مرت العلاقة بين الأنظمة الرسمية العربية وشعوبها، من جهة، وبين تلك الأنظمة والقضية الفلسطينية، بمنعطفات متعدّدة وكبيرة، وشهدت عواصف سياسية وشعبية أطاحت بعض الأنظمة لم تكن القضية الفلسطينية بمعزل عن ذلك كله، ففلسطين القضية حاضرة حتى في التظاهرات السياسية الرافضة للواقع، اقتصادياً واجتماعياً، وعند التعبير عن حالات الاحتقان الداخلي، تلجأ الجماهير إلى استدعاء القضية الفلسطينية. 

دول المغرب العربي لم تكن بمعزل عن حالة النظام الرسمي العربي المحيط جغرافياً بفلسطين، وإن كانت لها خصوصية أنها لم تلتحق كلها بقطار التطبيع مع كيان الاحتلال باستثناء المغرب. وعلى رغم ذلك فإن حضورها المقنن، رسمياً وشعبياً، كالجزائر وليبيا وتونس يتلاشى، وتلك ظاهرة لافتة جداً، انتقلت من توظيف الأنظمة الرسمية للقضية الفلسطينية لترويض الرأي العام الداخلي والاستجابة للحد الأدنى من مقتضيات التضامن، إلى تجريم الاقتراب او التضامن.

شكلت معركة طوفان الاقصى، بكامل تبعاتها وتداعياتها، علامة فارقة ومفصلية في علاقة الأنظمة الرسمية المغاربية بالقضية الفلسطينية، وكان لافتاً حجم التضامن وخريطة توزيعه. المفارقة أن مساحة التضامن الشعبي مع القضية الفلسطينية خضعت لعملية تجريم وتقزيم.

تعلق في ذاكرة الشعبين الجزائري والفلسطيني مقولة خالدة للرئيس الجزائري هواري بومدين، وهي "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". وعلى مدى أعوام كانت الجزائر داعمة للقضية الفلسطينية، لكن مؤخرا بدأ الدعم والتضامن والمناصرة خاضعة لاعتبارات سياسية داخلية، وصلت إلى حد منع التظاهر نصرة لفلسطين.

في يوم 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بينما كانت الحرب على غزة تتحوّل إلى مذبحة كبرى، تم قمع محاولات التظاهر في الجزائر لدعم فلسطين، وتذرعت السلطات الجزائرية بأن دعمها القضية الفلسطينية يُبطل جدوى التظاهر. وبدا الإحباط والغضب واضحين في شبكات التواصل الاجتماعي. وهنا حدث أمران. الأول الاتكاء على مقارنة مظاهرات التضامن في المغرب، والثاني استبدال توظيف التضامن مع القضية الفلسطينية من النظام إلى المعارضة.

ذلك بأن عبد العزيز مقري، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، والذي تم اعتقاله "موقتاً" من قوى الأمن، بعد دعوته إلى التظاهر، دان منع الجزائريين من التعبير عن تضامنهم مع غزة، والذي يناقض "القيم الجزائرية". ودعا السلطة إلى تنظيم المظاهرات بنفسها، قائلاً: "اخرجوا وسنكون خلفكم".

وعطفاً على مقترح مقري، نُظّمت في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023 مظاهرة يتيمة تم تأطيرها أمنياً، وكانت أٌقرب إلى فعالية رسمية منها إلى تظاهرة شعبية عفوية تضامنية. وبعدها، لم تكن هناك مظاهرات جديدة.

لم يتباين المشهد في المغرب عن نظيره في الجزائر على الرغم من خصوصية توظيف كل من النظامين للقضية الفلسطينية، ووقوع النظام المغربي في خطيئة التطبيع، لكن بعد عام، عندما تدحرج التغول الصهيوني على بلد عربي شقيق آخر هو لبنان، منعت السلطات المغربية، في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2024، مهرجاناً تضامنياً مع فلسطين ولبنان، مع العلم بأن المهرجان كان فعالية داخلية في قاعة مغلقة - بلدية فاس - وليس تظاهرة في الشارع، وحصل الائتلاف المغربي لدعم فلسطين على الترخيص اللازم بموجب إجراءات قانونية من الجهات المعنية، ليتم التراجع عن منح الرخيص قبل الفعالية بساعة واحدة فقط. وللموضوعية، فإن منع المهرجان يتناقض مع المظاهرات اليومية المناصرة لفلسطين في المدن المغربية. لكنها عملية التوظيف المتبادل بين النظام والأحزاب السياسية، إذ تحول منع المهرجان إلى تظاهرة احتجاجية.

في نهاية نيسان/أبريل الماضي تطور الأمر وتجاوز المنع إلى القمع، واعتقلت قوات الأمن المغربية العشرات من المتظاهرين الذين يرفضون التطبيع ويدعمون المقاومة الفلسطينية. وفي 21 آذار/مارس الماضي، كان موعد محاكمة 13 مناضلاً مغربياً بتهمة التظاهر والتحريض على التظاهر نصرة لفلسطين ومقاومتها. 

انشغلت تونس هي الأخرى بصراعاتها الداخلية وقضاياها. والمناوشة بين النظام السياسي والمعارضة شغلتها عن التضامن مع القضية الفلسطينية، وتقدمت مظاهرات دعم الحريات ووقف الاعتقالات وتحسين الأوضاع الاقتصادية على نصرة القضية الفلسطينية، وهذه أولوية مفهومة وموضوعية إذ إنه لا يمكن للشعوب المقهورة أن تتضامن أو تتعاطف أو تغلب قضية على قضاياها الداخلية. وليبيا ليست أفضل حالاً وقطعتها الخلافات وشغلتها.

تاريخياً، على مدار عمر القضية الفلسطينية، دعمت الشعوب العربية المقاومة في فلسطين وقاتلت في صفوفها، حتى تغلغلت "إسرائيل" وتوغلت في المنطقة، من بوابة التسوية تارة، ومن خلال التطبيع تارة أخرى، فتبدلت القناعات والمواقف والمحددات. المغاير فيما نود الإشارة والتعرض له، أننا اليوم أمام محرقة غير مسبوقة ومعركة سيترتب عليها وعلى مخرجاتها رسم خريطة المنطقة، جغرافياً وديموغرافياً، وفق المحددات الإسرائيلية. وعلى رغم ذلك، فإن التضامن العربي بشقيه الرسمي والشعبي باهت ولافت في دول المغرب العربي التي لم تذهب إلى التطبيع.

إن قمع تظاهرات التضامن مع فلسطين ومناصرتها وتجريم ذلك إلى حد القيام بالاعتقالات، ولاسيما في دول المغرب العربي، يعني في مدلوله أننا أمام استراتيجية رسمية تهدف إلى تفكيك العلاقة بين فلسطين القضية وظهيرها الشعبي العربي، وتبعات ذلك خطيرة وكبيرة وتتقاطع مع ما يهدف كيان الاحتلال إلى تحقيقه وتنفيذه.

إن قلق الأنظمة المغاربية من مجرد تظاهرات التضامن مع القضية الفلسطينية ونصرتها على الرغم من جرائم الإبادة القائمة منذ أكثر من عام، يعني انتفاء السيادة والإرادة السياسية الحرة.

إن استمرار الخذلان سيفضي إلى اتساع الهوة بين فلسطين وبُعدها العربي الرسمي من جهة، واتساع الفجوة بين الشعوب والأنظمة العربية الرسمية، والتي كانت بالمناسبة قبل الحرب واسعة، وعندما جاءت معركة طوفان الأٌقصى اتسعت أكثر. وبالتالي، فإن محافظة الأنظمة على بقائها تقتضي، في أحد محدداتها، أمرين: الأول السماح بمساحة كبيرة للشعوب بالتضامن ونصرة فلسطين لا تجريم ذلك. والثانية انحياز الأنظمة ذاتها إلى فلسطين وقضيتها انحيازاً حقيقياً فعالاً ومؤثراً، وليس انحيازاً موسمياً سطحياً لقطع الطريق على المعارضة من أجل توظيف ذلك واستثماره.

سيتوقف التاريخ مطولاً عند المواقف الشعبية والرسمية من القضية الفلسطينية التي تتعرض، على مدار أكثر من عام، لحرب إبادة غير مسبوقة، وستصدم الأجيال المقبلة عندما تطالَع بأن نصرة فلسطين والتضامن معها كانا مدعاة ومدخلاً للقمع والتجريم.