الغرب وأهوال 500 عام من الغزو والإبادة

في نهاية الحرب العالمية الثانية، شاركت دول أميركا اللاتينية في إنشاء نظام ليبرالي "قائم على القواعد" لما بعد الحرب، وهو النظام الذي تبنّت جميعها مبادئه التأسيسية، وخاصة رفض مبدأ الغزو.

0:00
  • نهاية عصر الغزو؟
    نهاية عصر الغزو؟

يستأنف هذا المقال عرض رؤية الكاتب والمؤرخ الأميركي غريغ غراندين حول الغرب وميراث غزوٍ بلا نهاية وأهوال خمسمئة عام من مشروع الغزو والتوسع الإمبريالي والإبادة الجماعية، والذي يشهد آخر حلقاته الآن في فلسطين وذروة جرائمه، تدميراً وإبادة وتطهيراً عرقياً، في قطاع غزة. يلتقط غراندين أوجه التشابه بين الغزو الإسباني للأميركيتين والذي أودى بحياة عشرات الملايين من سكانهما الأصليين وبين عدوان "إسرائيل" على غزة الذي قتل حتى الآن نحو 55 ألف فلسطيني وجرح أضعافهم.

يعود مبدأ أو "حق" الغزو إلى العصر الروماني، وباستثناء انتقادات وُجهت إلى إسبانيا في القرن الـ 16، ظلّ هذا المبدأ قائماً من دون منازع حتى أواخر القرن الـ 18، عندما وُجِد – مع تحرر الأميركيتين من أوروبا – أنصار ومنتقدون جدد لهذا المبدأ. عزز قادة الولايات المتحدة الجديدة هذا المبدأ، متذرعين بحق الغزو لتبرير توجههم غرباً نحو المحيط الهادئ والاستيلاء على أراضي الأميركيين والمكسيكيين الأصليين.

نظام ليبرالي "قائم على القواعد"

درّست أجيال من أساتذة القانون في الولايات المتحدة طلابهم شرعية هذا المبدأ. "إنّ حقّ الأمم الأوروبية، الذي انتقل إلى الولايات المتحدة، في هذه الإمبراطورية شاسعة الأراضي، تأسس على الاكتشاف والغزو"، كما قال جيمس كينت في كلية القانون بجامعة كولومبيا في تسعينيات القرن الـ 18.

وأكدت المحكمة العليا الأميركية أيضاً أن الولايات المتحدة تأسست على الغزو، وأنّ مبدأها لا يزال سارياً. وحتى عام 1928، أصرّ كتاب قانوني بالإنكليزية واسع الانتشار أنه "ما دام قانون الأمم قائماً، فإنّ الولايات المتحدة، وغالبية المشرعين العظمى، قد اعترفوا بالاستعباد كأسلوب لاكتساب الأراضي"، معتبرين أنه من القانوني "للمنتصر احتلال أراضي العدوّ المحتلّة".

على النقيض، رفض قادة استقلال أميركا الإسبانية بشدة مبدأ الغزو. كان عليهم ذلك، إذ كان عليهم أن يتعلموا التعايش فيما بينهم، إذ ترأسوا سبع جمهوريات إسبانية أميركية جديدة في قارة مكتظة. ولو التزموا بالنسخة الأميركية من القانون الدولي، فمن كان سيمنع الأرجنتين من غزو تشيلي كما غزت الولايات المتحدة الكريك والمكسيكيين؟ أو يمنع تشيلي من الزحف نحو الأرجنتين للوصول إلى المحيط الأطلسي؟ ستكون النتيجة حرباً بلا نهاية. وهكذا، تبرأ فقهاء القانون في المنطقة وغيرهم من المثقفين من الغزو (مستمدين من انتقادات كاثوليكية سابقة لإخضاع إسبانيا العالم الجديد). وبدلاً منه، وضعوا إطاراً جديداً للعلاقات الدولية يحظر الحرب العدوانية ويعترف بالسيادة المطلقة لجميع الدول، بغض النظر عن حجمها.

لعقود، حاول دبلوماسيو أميركا اللاتينية إجبار واشنطن على قبول مثل هذه الرؤية للقانون الدولي التعاوني – ورفضت واشنطن ذلك عقوداً، خوفاً من أن تكون عملاقاً مقيّداً بزمرة أقزام لاتينيين. بمرور الوقت، بدأ رجال الدولة الأميركيون يقبلون على مضض التفسيرات القانونية لأميركا اللاتينية، حيث أدرك أصحاب بُعد النظر منهم أن إصلاح نظام القانون الدولي سيسمح بتمدد أكثر فعالية لقوة واشنطن.

في عام 1890، وفي المؤتمر الأميركي الأول، وقّعت الولايات المتحدة معاهدة مؤقتة تلغي مبدأ الغزو. وفي عام 1933، وافق الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت على التخلي عن حق التدخل في شؤون أميركا اللاتينية والاعتراف بالسيادة المطلقة لجميع الدول.

في نهاية الحرب العالمية الثانية، ومقتل أدولف هتلر وهزيمة الفاشية، شاركت دول أميركا اللاتينية بكل سرور في إنشاء نظام ليبرالي "قائم على القواعد" لما بعد الحرب، وهو النظام الذي تبنّت جميعها مبادئه التأسيسية، وخاصة رفض مبدأ الغزو.

وهكذا، بدا أن عصر الغزو قد انتهى أخيراً.

نهاية عصر الغزو؟

ليس تماماً، بالطبع. وجدت أطراف الحرب الباردة طرقاً عديدة للالتفاف على "القواعد"، ولم يحتاجوا إلى الاستشهاد بمبدأ القانون الروماني لتبرير الفظائع في فيتنام وغواتيمالا وإندونيسيا، وغيرها. ثم، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، بدأت الحرب تنتشر في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، بما في ذلك حربا الخليج الأولى والثانية بقيادة الولايات المتحدة.

مع ذلك، تمسّك النظام الليبرالي عالمياً بفكرة أن العالم يجب أن يُنظّم حول التعاون، لا التنافس، وأن المصالح المشتركة للدول أكثر من المتنازع عليها.

لكن، يبدو الآن أن هذه الفكرة قد طُرحت جانباً، وحلّت محلّها رؤية جديدة للغزو. نرى نسختها الهزلية في تصريحات دونالد ترامب المتبجحة، إذ ادّعى عفوياً حقه في استخدام القوة للاستيلاء على جزيرة غرينلاند، وضم كندا باعتبارها "الولاية رقم 51"، والاستيلاء على قناة بنما، وتطهير غزة من أهلها، محوّلًا إياها، كما يبدو، إلى منتجع أشبه بالريفييرا. وتتجلى تعبيرات أكثر ضراوة عن رؤية الغزو هذه في حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا وحرب "إسرائيل" في غزة.

من بين حربي الغزو هاتين، تمس الثانية وتراً حساساً، ويعود ذلك جزئياً إلى أن وجود "إسرائيل" مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصائر النظام الدولي الليبرالي. فقد أخرجت الأمم المتحدة "إسرائيل" (قانونياً على الأقل) إلى الوجود عام 1948. وصوّتت دول أميركا اللاتينية آنذاك بالإجماع لصالح الاعتراف بـ"دولة إسرائيل"، وكانت غواتيمالا بمنزلة سوط واشنطن، ما ضمن أن تعمل المنطقة ككتلة واحدة. لقد شكّلت المحرقة النازية مرجعاً أخلاقياً للغرب، وتذكيراً كابوسياً بما ينتظر عالمًا يتخلى عن التسامح الليبرالي أو لا يلتزم بالقواعد الليبرالية.

في الوقت نفسه، وخاصةً بعد حرب الأيام الستة عام 1967، أصبحت الأمم المتحدة أيضاً أشدّ منتقدي احتلال "إسرائيل" لغزة والضفة الغربية. تتجاهل "إسرائيل" انتقادات الأمم المتحدة، متذرّعةً بالمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تمنح الدول حق الدفاع عن النفس، لتبرير عدوانها على أهل غزة.

مع دخولنا ما قد يكون المرحلة الأخيرة من الإبادة الجماعية في غزة، أصبح هذا التشابك الطويل بين نظام قائم على القواعد و"إسرائيل" نوعاً من رقصة الموت. يتجاهل كثيرون، غير قادرين على تحمّل الأخبار. ولا يستطيع آخرون تجاهلها، مرعوبين من أن أصحاب السلطة في الولايات المتحدة لا يقدمون شيئاً سوى المزيد من الأسلحة لـ"إسرائيل"، التي تواصل القتل العشوائي، بينما تحجب جميع المواد الغذائية والأدوية عن المحاصرين بغزة. حتى أبريل/نيسان، كان نحو مليوني فلسطيني يفتقدون مصدراً آمناً للغذاء. ويستمر تحلل جثث الرضّع. يقول طبيب الأطفال محمد قزيز من كولورادو، والذي يعمل مع منظمة أطباء ضد الإبادة الجماعية: "عندما يموت الأطفال جوعاً، لا يبكون حتى. بل تتباطأ قلوبهم الصغيرة حتى تتوقف".

الإنسانية تتلاشى بسرعة

في مطلع مايو/أيار، وافق مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي المصغر برئاسة بنيامين نتنياهو بالإجماع على خطة أُطلق عليها اسم "عملية مركبات جدعون"، والتي، في حال تنفيذها، ستُجبر جميع سكان غزة على دخول منطقة احتواء صغيرة في الجزء الجنوبي من القطاع، مع سيطرة "إسرائيل" على جميع المساعدات الغذائية والطبية المقدمة لهم. وسيُكمل "الجيش" الإسرائيلي، كما وصف أحد المسؤولين، "غزو قطاع غزة". وقال وزير المالية سموتريتش إن غزة ستُدمر بالكامل. وأضاف بنبرة قاتمة: "سنغزو ونبقى".

في القرن الـ 16، كان اشمئزاز بعض اللاهوتيين والفلاسفة من وحشية الغزو الإسباني المفرطة بداية "تشكيل بطيء للإنسانية" – تلك الفكرة الهشة، التي ترسخت على مر القرون وطُبّقت دائماً بشكل مختل، وتمثلت في أن جميع البشر متساوون بالفعل، ويشكلون مجتمعاً واحداً يتجاوز القبلية والقومية. واليوم، تُقوّض وحشية مماثلة هذا العمل. ويبدو أن الإنسانية تتلاشى بوتيرة متسارعة.

من كورتيز إلى نتنياهو وبوتين وترامب، تبدأ نهاية الغزو.