العدوان الصهيوني على لبنان وآفاق التصعيد
لن تسمح الولايات المتحدة بهزيمة "إسرائيل"، كما أنها تؤيد القضاء على مقاومة غزة أو لبنان. لكنّ محور المقاومة بدوره لن يسمح أيضاً بسحق المقاومة في غزة أو لبنان.
تتحرك الإدارة الأميركية بين حدين في دعمها للكيان الصهيوني خلال حملته على غزة، والآن لبنان، أولهما الدعم الأميركي المبدئي والثابت لوجود "إسرائيل" وأمنها، وبالتالي تفوقها عسكرياً وتقنياً على كل من في محيطها، عدواً أو صديقاً، مع التذكير بأن "ردع إيران ووكلائها" هو أولى مهمات القيادة الأميركية الوسطى (سنتكوم)، كما ورد في موقعها الرسمي.
تجلى ذلك مؤخراً في زيادة الحشود العسكرية الأميركية بين شرقي المتوسط وخليج عُمان على خلفية تفجر الأوضاع في جبهة الكيان الصهيوني الشمالية واحتمال تدهورها بصورةٍ أكبر، الأمر الذي دفع البنتاغون إلى الزج بمزيد من أصوله في المنطقة، حتى وصلت الحشود الأميركية قبل أسابيع إلى 50 ألفاً، بحسب "ميليتري تايمز" في 18/9/2024، ووكالة "أسوشييتد برس" في 20/9/2024، مع وجود حاملتي طائرات أميركيتين في المنطقة.
وجرت الإشارة في مادة سابقة إلى أن تعداد القوات الأميركية في المنطقة، من دون حلفائها، إذا جمعنا ما يفترض أن يضمه كل تشكيل عسكري، براً وبحراً وجواً، بحسب المصادر الأميركية، يبلغ 52 ألفاً. وهذا لمن أصروا على تبني الرقم الأميركي الرسمي، وهو 40 ألفاً، صعوداً من 34 ألف جندي أميركي قبل 7 أكتوبر.
في جميع الأحوال، تقول المصادر الأميركية المذكورة أعلاه إن الحشود العسكرية الأميركية جاهزة في حالة توسع الصراع، وإن جرى تخفيضها بضعة آلاف الآن، مع مغادرة إحدى حاملتي الطائرات الأميركيتين المنطقة، كي تتوجه إلى منطقة آسيا - المحيط الهادئ (لأن مناطحة الصين وروسيا لا تخضع حصرياً لروزنامة الصراع في منطقتنا).
وبحسب تلك المصادر، توجد الآن حاملة الطائرات "أبراهام لينكولن" وثلاث مدمرات تابعة لها في خليج عمان، كما توجد مدمرتان وغواصةٌ تحمل صواريخ موجهةً في البحر الأحمر، وثلاثُ مدمرات، إضافةً إلى سفينتي إنزال وسفينة الهجوم البرمائية USS Wasp على مقربة من شواطئ شرقي المتوسط.
يشار إلى أن الـ USS Wasp ("واسب" تعني الدبور) تحمل على متنها وحدة المارينز الاستكشافية السادسة والعشرين، والمؤلفة من 2400 عنصر، وفيها مكونات برية ومظلية وجوية تعمل بعيداً عن المياه أحياناً، كما في أفغانستان عام 2001، وفي أربيل والموصل في العراق عام 2003، لكن أيضاً عند الشاطئ الليبي عام 2011. ولا يفتي قاعدٌ لمجاهد، لكن من الضروري تنبيه المقاومة لهذا الخطر الجاثم مقابل شواطئ لبنان وغزة، ناهيك بسفينتي الإنزال، كي تأخذ فعالياته المحتملة في الحسبان إذا وصلت الأمور إلى تدخلات أميركية مباشرة من نمط "الحرب على الإرهاب"، ولو لم يجر ذلك في إطار حرب شاملة.
يضاف إلى ذلك نقل 6 طائرات "أف – 18" من حاملة الطائرات "لينكولن" إلى قاعدة في المنطقة، استنكفت المصادر السابقة عن تحديد موقعها، وإرسال سرب إضافي يقدر تعداده بـ 12 طائرة "أف – 22" المتقدمة، والمحسوبة على الجيل الخامس من الأسلحة، إلى منطقتنا، ليصل عدد أسراب الطائرات المقاتلة المتموضعة في قواعد أميركية برية في الأراضي العربية جنوبي غربي آسيا إلى 4 أسراب، إضافةً إلى ما تحمله السفن الأميركية في المياه العربية من طائراتٍ ومروحيات ومسيرات.
يُذكَر أن الوجود في منطقتنا ليس شرطاً ضرورياً لشن ضربات جوية على أهدافٍ فيها. وفي شباط/فبراير الفائت، انطلقت قاذفتا "ب – 1" أميركيتان من قاعدة "دايس" في ولاية تكساس لقصف 85 موضعاً في سوريا والعراق بذريعة الرد على مقتل 3 جنود أميركيين في هجوم نفذته المقاومة العراقية. لكنّ رحلة هاتين القاذفتين استغرقت 30 ساعة طيران، ذهاباً وإياباً. وبالتالي، فإن وضع أسراب طائرات أميركية في الأراضي والمياه العربية يقرّبها إلى أهدافها الثابتة والمتحركة، وخصوصاً في حالة اندلاع حرب.
الالتزام الأميركي بشأن تعزيز التفوق الجوي للكيان الصهيوني
من البديهي أن هذه الحشود العسكرية الأميركية جاءت لتعزز التفوق الجوي والصاروخي "الإسرائيلي" في خضم تصاعد الصراع مع حزب الله وفصائل المقاومة في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق واليمن، أي أنه يمثل احتياطياً استراتيجياً من منظور هيئة أركان قوات الاحتلال، وأن ذلك يمثل، في حد ذاته، غطاءً سياسياً لممارسة العدوان من منظور حكومة نتنياهو، فإذا ردت قوى المحور على العدوان الصهيوني بما يزعزع ميزان القوى أو يهدد وجود الكيان الصهيوني، فإن البنتاغون ملتزم الدفاعَ عن "إسرائيل"، كما صرح مراراً، والأهم، كما تشهد حشوده.
المعركة إذاً مع طرف واحد أميركي -صهيوني، وللقدرات الأميركية حدودها طبعاً، ومنها الخوف من تمادي روسيا والصين في الساحات الدولية إن التزمت الولايات المتحدة خوض حربٍ مطولةٍ أو أكثر من حرب في منطقة القيادة الوسطى (سنتكوم). وسبق أن هُزم الأميركيون في أكثر من حربٍ من قبلُ، مؤخراً في أفغانستان والعراق، ولسوف يُهزمون مجدداً، لأن بقاء هيمنتهم ليست قدراً محتّماً في وجود قوى إقليمية ودولية صاعدة، ولأن شعوب الأرض لن ترزح تحت الهيمنة الأميركية إلى الأبد.
على الرغم من ذلك، فإنه لا بد من الإشارة إلى الحشود الأميركية في المنطقة، ذات الرسالة الردعية حتى الآن، لعناية من يلومون محور المقاومة على عدم الانخراط في حرب شاملة فوراً رداً على الاعتداءات الصهيونية، إذ إن المكون الأميركي في ميزان القوى يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، وهو ليس مكوناً جباراً أو عصياً على الكسر، لكنْ ما دامت روسيا والصين غير مستعدتين لخوض المعركة في منطقة القيادة الوسطى، فإن الثمن الذي سندفعه سيكون أكبر، مع العلم بأن ثمن المقاومة يظل دوماً أقل من ثمن الاستسلام إذا وصلت الأمور إلى مواجهة مباشرة مع القوات الأميركية في المنطقة، كما جرى مراراً من قبلُ.
وفي سياق ترسيخ التفوق الجوي للكيان الصهيوني، الذي يقدر أسطوله الجوي بـ 280 طائرة مقاتلة، إضافة إلى طائرات الشحن العسكري والتزود بالوقود جوياً والإنذار المبكر والاستطلاع والتدريب، أقرت إدارة بايدن الشهر الفائت صفقةً لبيع "إسرائيل" 50 طائرة "أف – 15" إضافية بقيمة 18.82 مليار دولار، سيبدأ تسليمها في الأعوام المقبلة، زائداً 33 ألف قذيفة دبابة، و50 ألف قذيقة هاون وشاحنات عسكرية، في مقابل مليار دولار ونيف، يبدأ تسليمها منذ الآن، كي يتابع الكيان الصهيوني عدوانه كالمعتاد.
وبحسب "تايمز أوف إسرائيل" في 4/6/2024، وقّعت وزارة الحرب "الإسرائيلية" اتفاقيةً مع البنتاغون بداية شهر حزيران/يونيو الفائت لتسليم سلاح الجو "الإسرائيلي" 25 طائرة "أف – 35"، المعروفة باسم "الشبح"، وهي من الجيل الخامس، خلال الأعوام المقبلة، سيتم تمويلها من المساعدة الأميركية إلى الكيان الصهيوني.
ويملك الكيان الصهيوني 39 طائرة "شبح" حالياً، جرى تسليمها كجزء من اتفاقية سابقة على 50 طائرة، وما برحت 11 طائرة منها في الأنابيب، ليصل حجم أسطول الكيان الصهيوني من طائرات "أف - 35"، بعد تنفيذ العقدين، إلى 75 طائرة.
لا يحسم السلاحان الجوي والصاروخي حروباً طبعاً، لكنهما قادران على إيقاع دمارٍ شاملٍ ومجازر كبيرة، كما تشهد غزة ويشهد لبنان، لكن ذلك الدمار وتلك المجازر التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني ما كانت ممكنة لولا المدد الأميركي خصوصاً، والغربي عموماً، لآلة الحرب "الإسرائيلية".
وتُظهر إحصاءات "معهد ستوكهولم لأبحاث السلام" أن 65.6% من واردات السلاح إلى الكيان الصهيوني بين عامي 2013 و2023 جاءت من الولايات المتحدة الأميركية، و29.7% جاءت من ألمانيا، و4.7% من إيطاليا. أما بين عامي 2019 و2023، فارتفعت واردات الأسلحة الأميركية إلى الكيان الصهيوني إلى 69%.
الحد الآخر لدعم إدارة بايدن للكيان الصهيوني
بحسب تقرير في مجلة "فورين بولسي" الأميركية في 29/2/2024، فإن طول أمد الحرب في غزة ولبنان ترك الكيان الصهيوني معتمداً على الولايات المتحدة عسكرياً أكثر من أي وقت مضى، إذ إن العقيدة العسكرية لقوات الاحتلال قامت تاريخياً على شن حروبٍ قصيرة قاصمة على أرض الخصم، لكنّ "حرب إسرائيل رداً على هجوم حماس في الـ7 من أكتوبر مثلت خروجاً كبيراً عن العقيدة المألوفة للجيش الإسرائيلي"، بحسب تعبير التقرير.
كأن العدو الصهيوني كان يملك خيار حسم المعركة بسرعة مع غزة والجبهات المساندة، كما يوحي تقرير المجلة. يُضاف في تفسير "خروج الاحتلال عن طوره"، أو طور عقيدته العسكرية إذا صح التعبير، أن مفصل الـ7 من أكتوبر التاريخي، بما مثله من هجومٍ بري مباشرٍ ومفاجئ على الأرض المحتلة عام 1948، الأمر الذي لا يمكن السماح إسرائيلياً بتكراره، من غزة أو لبنان أو غيره، وعدم قدرة الاحتلال على حسم معركة غزة أو جبهات إسنادها، عسكرياً أو سياسياً أو أمنياً، ناهيك بحسمها "بسرعة"، فَرَضَ وقائعَ وضروراتٍ استراتيجية مختلفةً تتطلب استمرار الحرب من وجهة النظر الصهيونية. وهذه النقطة لعناية من يحيلون استمرار الحرب على اعتبارات شخصية أو سياسية متعلقة بنتنياهو وحكومته فحسب.
المهم أن استطالة أمد الحرب ترك "إسرائيل" أكثر اعتماداً على موارد البنتاغون من أي وقتٍ مضى. فالكيان الصهيوني يملك "قاعدة صناعية عسكرية متطورة، وبنية عسكرية متقدمة"، بحسب تقرير "فورين بوليسي" ذاته، لكنّ استمرار الحرب أشهراً متواصلة جعل المؤسسة العسكرية في الكيان الصهيوني بحاجة ماسة إلى تجديد مخزونها من أسلحة معينة أكثر من غيرها، و"عندما يتعلق الأمر بحزب الله بالذات، يحتاج الجيش الإسرائيلي إلى مزيد من الأسلحة الموجهة بدقة، والتي ستكون حاسمة لتحييد مواقع إطلاق حزب الله وغيرها من المواقع الحساسة".
حاولت إدارة بايدن أن "تبيع" تعليق إرسال قنابل ثقيلة من فئة 2000 رطل تحديداً إلى القطاع الشبابي في الحزب الديمقراطي المناصر لغزة وفلسطين، وللناخبين العرب والمسلمين في الولايات المتحدة، عشية الانتخابات الأميركية، على أنه اعتراض أميركي على الحملة العسكرية "الإسرائيلية" في رفح، وعلى قتل المدنيين، ثم على شن حرب شاملة على لبنان. وراح نتنياهو، في المقابل، يلوّح بأن إدارة بايدن تعوّق إرسال شحنات الأسلحة إلى الكيان الصهيوني، الأمر الذي يخدم ترامب والجمهوريين انتخابياً في الواقع.
لكنْ، بحسب تقرير حصري لوكالة "رويترز" في 28/6/2024، نقلاً عن مصادر خاصة في الإدارة الأميركية، فإن الولايات المتحدة شحنت، بين الـ7 من أكتوبر 2023 وشهر حزيران/يونيو الفائت، على الأقل 14 ألف قنبلة MK-84 من فئة 2000 رطل، و6500 قنبلة من فئة 500 رطل، و3000 صاروخ "هَلفاير"، وهو صاروخ جو - أرض دقيق موجه، و1000 قنبلة خارقة للتحصينات، و2600 صغيرة القطر تسقط من الجو، إضافةً إلى ذخائر أخرى.
يضيف تقرير "رويترز"، نقلاً عن مصادره الرسمية التي لم يسمها، أن تلك الأرقام الإجمالية تدلل على أن دعم الولايات المتحدة العسكري لحليفتها لم يشهد انخفاضاً يُذكَر، على الرغم من الدعوات الدولية إلى الحد من إمدادات الأسلحة، وقرار إدارة بايدن "تعليق" إرسال مزيد من قنابل حجم كل منها 2000 رطل إلى "إسرائيل".
ما زال حظر إدارة بايدن على قنابل حجم كل منها 2000 رطل قائماً، بعد إرسال 14 ألف منها على الأقل إلى الكيان الصهيوني منذ الـ7 من أكتوبر فقط، ومع الاستمرار في إرسال قنابل حجم كل منها 500 رطل وكل أنواع القذائف والصواريخ الأخرى. وتحاول كامالا هاريس أن توظف ذلك انتخابياً مع دعاة وقف الحرب، في حين ينفعل اللوبي الصهيوني في الكونغرس ومجلس الشيوخ بأن فرض أي نوع من القيود على تصدير القنابل الثقيلة جداً إلى "إسرائيل" في خضم حالة حرب يمثل "خيانة كبيرة".
لكننا نتعامل مع مسألة علاقات عامة هنا، تخص إدارة بايدن والمرشحين الديمقراطين الذين لا يريدون أن يخسروا الناخبين إذا جرى تناقل فيديوهات لمجازر كبرى وأبنية منهارة بالكامل من جراء قنابل حجم كل منها 2000 رطل الأميركية، ولا يريدون بالتأكيد أن تشن "إسرائيل" حرباً شاملة على لبنان عشية انتخابات مفصلية. فاستخدام الآلاف من تلك القنابل في دك لبنان، بعد غزة، ربما يستنزف مخزون "إسرائيل" منها، أما استخدامها بصورةٍ انتقائية ومقننة فلا يستنزفه، ولا يقلق الأميركيين كثيراً.
هذا يعني أن اعتراض إدارة بايدن والديموقراطيين هو على شن حملة هجومية "إسرائيلية" شاملة في هذه المرحلة السياسية تحديداً، وليس على هدف تدمير المقاومة في غزة أو لبنان، أو تدمير محور المقاومة عموماً، وإنما عبر طرائق تمزج السياسة بالحرب، وتتسم بطول النفَس وتحتكم إلى الحاجة لحفظ ماء وجوه المطبعين والتابعين للولايات المتحدة، وتتطلب في هذه اللحظة الانتخابية بالذات وقف التصعيد الذي يدفعه الكيان الصهيوني في اتجاه حربٍ شاملة. ومن هنا دعوة وقف إطلاق النار الفورية التي رفضتها حكومة نتنياهو.
سبق النشر، في 3 مواد سابقة، أن مراكز أبحاث أميركية وغربية متعددة تنبأت بتزايد احتمال اندلاع حرب شاملة نهاية هذا الصيف. في الاستراتيجية، لا يستطيع الكيان الصهيوني الاستمرار طويلاً كـ"مجتمع" و"مؤسسات" في ظل وجود قوى قادرة على القيام باختراق أكبر من الـ7 من أكتوبر في جواره. وفي السياسة الراهنة، يمثل التصعيد وتسخين الأجواء صهيونياً مصلحة مباشرة لترامب وإحراجاً للديموقراطيين، وبالتالي يمثل مصلحة لنتنياهو الذي يراهن على عودة ترامب لينطلق في حرب شاملة بدعمٍ أميركيٍ كاملٍ من دون أي قيود، وهذا لا بد من أخذه بعين الاعتبار أيضاً.
في المحصلة، لن تسمح الولايات المتحدة بهزيمة "إسرائيل"، كما أنها تؤيد القضاء على مقاومة غزة أو لبنان. لكنّ محور المقاومة بدوره لن يسمح أيضاً بسحق المقاومة في غزة أو لبنان. لذلك، فإننا في خضم لعبة صفرية مفتوحة على التصعيد أكثر مما هي مفتوحة على التهدئة، وإن جرى ترحيل الانفجار الكبير هنيهةً نتيجة اعتباراتٍ شتى، فإن المنطقة تسير في سكته كما يدل المشهد العام.