العدوان الإسرائيلي على غزة.. ثلاث محطات تؤثر في القرار الأميركي
ما يمكن أن يتأثر به الموقف الأميركي لا يعني بالضرورة وقف الحرب على غزة، فكل الشواهد حتى الآن تشير إلى أن واشنطن معنية باستمرار هذه الحرب، لا بل هناك من يذهب في اتجاه أنها تريدها.
تنخرط الولايات المتحدة الأميركية في العدوان الإسرائيلي على غزة، ليس بكونها حليفة لـ"إسرائيل" وضامنة لأمنها فحسب، بل لأن "طوفان الأقصى" مسّ بشكل مباشر بمصلحة من أهم مصالحها في المنطقة أيضاً، وبكون نفوذها الإقليمي في غرب آسيا يواجه تحديات صعود محور المقاومة الذي تعدّ غزة أيضاً ساحة من أهم ساحاته، لكن التدخل الأميركي المطبق في دعمه للعدوان يصطدم بمحاذير عديدة تهدد توسّع الحرب لتطال جميع المصالح الأميركية في المنطقة.
لذلك، القرار الأميركي بشأن الحرب يتأثر بعوامل منها ما هو مرتبط بـ"إسرائيل"، ومنها ما هو مرتبط بواشنطن. وباعتبار أن مصير الاحتلال الإسرائيلي والنفوذ الأميركي في المنطقة متداخل في أي حدث يطال الطرفين، فإن إدارة واشنطن للحرب سياسياً وعسكرياً تتأثر بـ3 محطات أساسية.
الإنجاز الإسرائيلي.. هل تنتظر واشنطن؟
تُحدد الأهداف الإسرائيلية بما هو معلن منها حدود التدخل الأميركي في الحرب على غزة. وبينما تعمل حكومة نتنياهو على المناورة في الأهداف بين القضاء على حماس أو ضرب قدراتها العسكرية أو السيطرة الأمنية على قطاع غزة، فإن واشنطن تقارب هذا الأمر ميدانياً من جهة قدرة "إسرائيل" على تحقيقه في غزوها البرّي وفق مسارين: المسار الأول، هزيمة المقاومة الفلسطينية هزيمة ساحقة وكاملة على كل المستويات العسكرية ضمن مدة زمنية محددة، والمسار الآخر هو التحرّك برياً داخل غزة من دون تدخّل جبهة ثانية خارجية.
وفي الوقت الذي تسعى واشنطن إلى عدم تحويل الميدان في غزة إلى حرب أميركية عسكرية مباشرة تشارك فيها قوات أميركية أو تتدخل فيها حاملات الطائرات والبوارج الأميركية، فإن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ستكون حذرة في المضي بأي مخاطرة تدخلها بشكلٍ مباشر في مواجهة أي قوى من خارج غزة ما دامت القوات الإسرائيلية عاجزة عن تحقيق أهدافها الميدانية.
وبذلك، فإن المسار الثاني ورد الفعل الأميركي عليه محكوم بنتائج ومجريات المسار الأول ضمن سؤال: لماذا ستدخل الولايات المتحدة في مواجهة قوى من خارج غزة ما دامت "إسرائيل" عاجزة عن تحقيق أهدافها البرية في القطاع، حتى لو تم تحييد تلك القوى؟
وإذا كانت قوى محور المقاومة تربط تدخلها في أوسع نطاقه بقدرة المقاومة الفلسطينية على المواجهة والانتصار، فإن الميدان في غزّة الذي يتحكّم في قرارها بالتدخل الأوسع من عدمه يتحكم أيضاً في القرار الأميركي بوقف الحرب أو المضي بها، باعتبار أن لا مجال للمغامرة غير المحسوبة في ظلّ عدم وجود إنجازات واضحة لـ"إسرائيل" يمكن أن تسير بها واشنطن لضرب قوى أخرى وتردعها عن التدخل، وهذا ما سيدفعها إلى ترويض الأهداف الإسرائيلية بما يتلاءم مع الواقع الميداني أولاً، ومع عدم توسّع الحرب ثانياً، ومع عدم تورطها فيها ثالثاً.
يشار هنا إلى أن الأهداف بين الفريقين مختلفة (قوى محور المقاومة وقوى الهيمنة): قوى محور المقاومة تريد وقف إطلاق النار وخروج حماس منتصرة، وبذلك تسجّل إحدى أهم النقاط في حربها (الحرب في النقاط)، فيما الولايات المتحدة و"إسرائيل" تسعيان إلى القضاء على حماس. وبذلك، فإن أهداف محور المقاومة يمكن أن تجنّب المنطقة حرباً إقليمية، فيما تمسّك واشنطن وربيبتها بأهدافهما سيؤدي إليها.
أندرو إكسوم، وهو كاتب شغل منصب نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي لسياسة الشرق الأوسط، يتحدث في "ذي أتلانتيك" عن الدروس التي كان ينبغي لـ"إسرائيل" أن تتعلمها في لبنان قبل الحديث عن أهداف كهذه؛ ففي عام 2006، على سبيل المثال، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود أولمرت، إنه سيدمر حزب الله، ويعيد الأسيرين الإسرائيليين، وينهي الهجمات الصاروخية على "إسرائيل"، ولم تحقق الأخيرة أياً من الأهداف الثلاثة، وفق إكسوم. وعلى الرغم من الدمار الذي تعرض له لبنان، فإن "أغلب المراقبين لم يكن لديهم أدنى شك فيمن فاز في الصراع. لقد تلقى حزب الله كل ما يمكن لإسرائيل أن تطلقه عليه لمدة شهر وظل صامداً".
ويتحدث إكسوم عن أهداف "الجانب الآخر"، وهي أنهما (حماس وحزب الله) لا يريدان أقل من تدمير "إسرائيل"، لكنهما، بحسب الكاتب، "ليسا في عجلة من أمرهما، وهما يعتقدان أن الوقت في مصلحتهما، وأن الانقسامات الإسرائيلية الداخلية من المرجح أن تقوم بمعظم المهمة نيابة عنهما".
وبانتظار تحقيق أي منجز إسرائيلي في وجه المقاومة الفلسطينية، فإن الأهداف التي وضعتها حكومة نتنياهو تضيّق الخناق أكثر على القرار الأميركي، ولا سيما أنها أهداف، وبمعزل عن إمكانية تحقيقها من عدمه، ستأخذ وقتاً طويلاً.
وفي الحالتين، إن إمكانية التحقيق والوقت يضران بالقرار الأميركي الذي يمكن أن يذهب في اتجاه وقف الحرب مع تعذّر تحقيق الأهداف التي لا تقف عند القضاء على حماس، بل إدارة القطاع أيضاً، مع الأخذ بالاعتبار أن الحرب لن تقف عند حدود القطاع، ولن تبقى مصالح واشنطن بمنأى عنها في الحالتين.
ميزان المصالح
في الحديث عن الحرب الإقليمية الواسعة، فإن الأمر لا يعني بالضرورة تدخل محور المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل أيضاً ضد مصالح أميركية أخرى في المنطقة على امتداد جغرافيا الصراع، ولا سيما في سوريا والعراق والخليج. ولعلّ تحرك المقاومة الإسلامية في العراق منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة واستهدافها القواعد الأميركية في سوريا والعراق يوضح الصورة التي يمكن أن تكون عليها هذه الحرب إذا ما توسعت.
وإذا كانت "إسرائيل" جزءاً أساسياً ومهماً من النفوذ والحضور الأميركي الاستراتيجي والتاريخي في منطقة غرب آسيا، فإن مصالحها الأخرى المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بوجود "إسرائيل" لا تقل أهمية، ولا سيما تلك المتعلقة بالوجود العسكري أو الاقتصادي أو الأمني في مناطق متفرقة، إمّا بشكل احتلال في سوريا والعراق، وإما مع دول حليفة في الخليج.
تأخذ تلك المصالح أهميتها في الوقت الحالي لأن واشنطن تنظر إلى الصراع في مجاله الأوسع الدولي على أنه صراع مع روسيا والصين أيضاً، وتحديداً الأخيرة التي تسعى إلى زيادة حضورها الفاعل في المنطقة بطرائق وأساليب مختلفة عن الولايات المتحدة. لذلك، فإن تضرّر المصالح الأميركية أو على الأقل عدم استقرارها سيفسح المجال لحضور صيني أكبر، لأنه سيفتح ثغرات جديدة لبكين يمكن النفاد منها.
هذه اللحظة الدولية قرأتها دول وجماعات المقاومة بطريقة عملية، فجاء استهدافها الوجود الأميركي في المنطقة وتهديدها بتوسّع رقعة الصراع إذا ما استمرت الحرب على غزة وفي الساعات الأولى لـ"طوفان الأقصى"، ليضع الأميركي أمام خيارات ضيقة؛ فإما الذهاب نحو حربٍ واسعة غير مضمونة النتائج يمكن أن تهدد جميع المصالح الأميركية في المنطقة، وإما الاكتفاء بتضرّر "إسرائيل" في هذه المرحلة كمصلحة من تلك المصالح، ولو أن تأثيرها سيتجاوزها مع الوقت.
المصالح الأميركية التي تريد الولايات المتحدة الحفاظ عليها لا تتعلق بالحضور الأمني والعسكري فحسب، بل أيضاً بمصالح اقتصادية لها امتداد جيوسياسي يتعلق بموارد الطاقة وسلاسل الإمداد التي ستكون مهددة مع تصاعد التوترات، ولا سيما النفط الذي سيرتفع سعره إلى مستويات كانت واشنطن "تكافح" كي تقلل منها منذ بداية الحرب في أوكرانيا.
الأمر لا يقف هنا، بل يمكن أن يتطور إلى أن تخسر واشنطن حلفاء لها أو أن تخسر حضورها في ساحات استراتيجية (العراق سوريا والخليج)، فيما ذكرت "نيويورك تايمز" أن تصاعد الغضب الشعبي العربي دفع "السعودية ودولاً عربية أخرى إلى أن تتوسل (beseeching) الولايات المتحدة لدفع إسرائيل إلى إنهاء حملتها العسكرية في غزة"، كما ذكر مسؤول سعودي رفيع المستوى للصحيفة: "بسبب حساسية القضية، سيكون من المستحيل على الدول العربية النظر في المشاركة في مستقبل غزة حتى يكون هناك وقف لإطلاق النار".
أمام ذلك، كما سيرضى محور المقاومة بالفوز بنقطة ضمن مسار الحرب بـ"النقاط"، فإن الولايات المتحدة، وضمن ميزان المصالح، ستتعامل مع خسارة تلك النقطة على أنها حماية لمصالحها في دائرتها الأوسع إقليمياً من خلال وضع الحرب على غزة في مسار سياسي متوازن يمنع تصعيدها، لأن التهديد يتجاوز القوى المحلية إلى القوى الدولية، وأولها الصين، التي تراقب من كثب إمكانية حضورها الفاعل في المنطقة، والذي يتعارض مع الوجود الأميركي فيها بصورته الحالية، مع الإشارة إلى أن إدارة بايدن كانت تسعى على مدى السنوات الماضية إلى احتواء الصراعات في الشرق الأوسط والتفرغ لساحات أخرى مع الصين، ومن ثم روسيا.
تسفي برئِل، وهو محلل شؤون الشرق الأوسط في صحيفة "هآرتس"، يطرح الحرب على اليمن كمثال على ذلك، معتبراً أنّ الموقف الأميركي من الحرب الإسرائيلية على غزة يحدّده مدى التورط الأميركي فيها جغرافياً وزمنياً، ولا سيما أنّ الولايات المتحدة تخشى أن المعركة في غزة ستتحول، من دون خطة خروج إسرائيلية، إلى حربٍ أميركية أخرى (كما كان سيحصل في اليمن).
يبدو كلام برئل معقولاً مقارنة بالموقف الأميركي من العدوان على غزة والعدوان على اليمن، لأن الحرب في اليمن توقفت أو أخذت هدنة طويلة عندما تيقنت واشنطن من أن الرياض عاجزة عن إيجاد سلطة بديلة في صنعاء، فضغطت وأعلنت إيقاف المساعدات من أجل تحقيق وقف لإطلاق النار.
وإذا ما أردنا الحديث عن عامل الوقت، باعتبار أن حرب اليمن امتدت لسنوات، فإن هذا الأمر غير ممكن في غزة قبل أن تتخذ واشنطن قرارها، لأن طبيعة القتال والجغرافيا مختلفة، والأهم أن خطر الانزلاق إلى حرب إقليمية مرتفع أكثر بكثير في غزة كلما طال الوقت، وهذا ما سيهدد المصالح الأميركية في المنطقة بأكملها.
الواقع الأميركي
رسمياً، تقف الولايات المتحدة الأميركية بكامل قواها إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في حربه على غزة. هذا الأمر لا يمكن تجاوزه على الرغم من وجود بعض الأصوات التي تتحدث عن "هدنة إنسانية" أو "السماح بدخول المساعدات" أو "عدم استهداف المدنيين"، إلا أنها خجولة في الحديث عن وقف كامل لإطلاق النار، لكن هذا الأمر يمكن أن يتغير مع مرور الوقت في واقعٍ أميركي اجتماعي واقتصادي وسياسي غير مستقر كان بارزاً في الأشهر الأخيرة. ومع اقتراب الانتخابات وحملاتها الدعائية والسياسية، فإن الأمور ستكون أكثر تعقيداً على إدارة بايدن.
صحيح أن تأثير الواقع الأميركي الداخلي في قرار الاستمرار في الحرب سيكون أقل من غيره، لكنه سيكون فاعلاً في الضغط على البيت الأبيض لمقاربة الأمور وفق توازن بين المصالح الداخلية والخارجية. هذا الأمر ستحدده مدة الحرب وإمكانية وجود قدرة إسرائيلية على الحسم من دون استهلاك الكثير من الوقت.
يمكن استنباط بعض المؤشرات في ذلك، أهمها الانقسام الذي بدأ داخل الحزب الديمقراطي ذاته مع اقتراب الانتخابات، إذ كشف موقع "أكسيوس" الأميركي أنّ الفريق الانتخابي للرئيس الأميركي جو بايدن لعام 2024 منزعج من العدوان الإسرائيلي على غزّة، وقال إنّ الانقسامات تحدث بشكلٍ رئيسي بين الديمقراطيين الأكبر سناً المؤيدين لـ"إسرائيل"، والتقدميين الأصغر سناً الذين يرفضون الحرب (بعضهم متعاطف، وبعضهم لا يرى مصلحة أميركية في استكمالها).
أيضاً، يواجه بايدن، رغم إشادة الديمقراطيين بدعمه "إسرائيل"، مقاومة جديدة من فصيل نشط في حزبه ينظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها امتداداً لحركات العدالة العنصرية والاجتماعية التي هيمنت على السياسة الأميركية، وفق ما تذكر "نيويورك تايمز"، في حين أن أكثر ما يثير قلق بايدن وفريقه الانتخابي هو أنّ الأصوات الديمقراطية الأكثر أهمية في قاعات الكونغرس هي للديمقراطيين السود واللاتينيين الذين ساعدوا في تعزيز فوزه عام 2020، بحسب الصحيفة ذاتها.
وفي الوقت الذي تشهد المدن الأميركية احتجاجات وتظاهرات لمئات الآلاف رفضاً للعدوان على غزة، فإن هذا المسار سيشكل ضغطاً على إدارة بايدن مع الوقت مع اختلاف التأثير في إمكانية احتواء أضراره، لكن في ظل اقتراب الانتخابات الأميركية، فإن الاحتواء مع أزمة اقتصادية وسياسية وانقسام اجتماعي سابق للحرب سيجعل المهمة أصعب بكثير.
واشنطن تقرّر
ما يمكن أن يتأثر به الموقف الأميركي لا يعني بالضرورة وقف الحرب على غزة، فكل الشواهد حتى الآن تشير إلى أن واشنطن معنية باستمرار هذه الحرب، بل هناك من يذهب في اتجاه أنها تريدها، لكن الأميركي في حال اتخاذه قرار الاستمرار في الحرب، متجاوزاً تلك التأثيرات، يرى الأمور وفق ما يريده من أهدافه، لا وفق ما يمكن أن يتعرض له.
يبقى أن التعويل على إدارة الأميركي للحرب، بما يجنبه تداعيات ما يمكن أن يتعرض له، وفرض وقف الحرب ضمن أقل الخسائر، قابل للتحقق إذا تصرفت إدارة بايدن بواقعية مرحليّة واكتفت بخسارة "نقطة" أو "بعض نقاط".
حالياً، وباختصار، واشنطن وحدها من سيتسبب بالحرب الإقليمية الواسعة إن حصلت، ووحدها من يقرر اللاعبين فيها وحدود تدخلهم، ليس برضاها طبعاً، بل رغماً عنها، وذلك إذا ما قررت الذهاب بعيداً في تحقيق الأهداف الإسرائيلية المُعلنة (التي هي أهدافها بطبيعة الحال).