العدالة الانتقائية: "إسرائيل" والولاية القضائية العالمية في أوروبا
تسبّبت الجرائم التي يرتكبها إسرائيليون، بازدواجية أخلاقية وقانونية للدول الأوروبية في إطار تطبيق القانون الجنائي الدولي.
-
"إسرائيل" وتاريخ من الجرائم.
تقدّم المحامي والنائب في البرلمان الأوروبي عن إسبانيا خاومي أسينس بالنيابة عن موكله سيرجيو توريبيو أمام المحكمة الإسبانية بشكوى ضدّ مسؤولين سياسيين وأمنيين وعسكريين إسرائيليين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، وذلك خلال الاعتداء والاختطاف لطاقم سفينة "مادلين" التي كانت تحمل مساعدات إنسانية وتهدف لكسر الحصار عن قطاع غزة.
وتتضمّن الشكوى أوامر اعتقال ضدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بصفته أعلى سلطة تنفيذية والقائد الأعلى لـ "الجيش" الإسرائيلي، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بصفته كان المسؤول الأول عن العمليات العسكرية الإسرائيلية، وقائد سلاح البحرية الإسرائيلية دافيد سالاما، والمتحدّث الرسمي السابق باسم "الجيش" الإسرائيلي دانيال هغاري، وكبار قادة وحدة الكوماندوس في البحرية الإسرائيلية، بالإضافة الى كلّ من يظهره التحقيق متورّطاً.
قانونياً، تمثّل هذه الدعوى فرصة لكلّ مواطن إسباني من أصل فلسطيني أو لبناني، لديه أقارب أو عائلة في غزة أو لبنان وتعرّضت للاعتداءات الإسرائيلية، للانضمام إلى الدعوى أو رفع دعوى مماثلة انطلاقاً من مفهوم الولاية القضائية العالمية.
يُمثّل مفهوم الولاية القضائية العالمية ركيزة أساسية في السعي لتحقيق العدالة الجنائية الدولية، وهو يسمح لأيّ دولة بمقاضاة الأفراد مرتكبي الجرائم الدولية الكبرى (جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية والإبادة الجماعية والتعذيب) بغضّ النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية الجاني. ويعدّ هذا المبدأ استثناءً لمبادئ الولاية القضائية التقليدية المتعلّقة بالإقليمية (مكان وقوع الجريمة)، وجنسية الجاني، وجنسية الضحية، لكن يجب أن يتقدّم بها متضرّرون مباشرون أو أقاربهم.
تُلزم المعاهدات الدولية، مثل اتفاقيات جنيف لعام 1949 (وتحديداً أحكامها المتعلّقة بـ "الانتهاكات الجسيمة") واتفاقية مناهضة التعذيب، الدول الأطراف صراحةً بمقاضاة أو تسليم (مبدأ التسليم أو المحاكمة) الأفراد الموجودين على أراضيها والمشتبه في ارتكابهم مثل هذه الجرائم. كما يُقرّ القانون الدولي العرفي بالولاية القضائية العالمية لمجموعة أوسع من جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية.
ولكي تمارس محكمة وطنية الولاية القضائية العالمية، يجب أن تتوافر عدّة شروط، هي:
- أن تكون التشريعات الوطنية تخوّل المحاكم الوطنية ممارسة الولاية القضائية العالمية على الجرائم الدولية الكبرى.
- أن تكون الجريمة ضمن فئة الجرائم الدولية الكبرى الخاضعة للولاية القضائية العالمية.
وكانت الدول الأوروبية، وخاصة تلك الأطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، قد أدرجت مقاضاة تلك الجرائم الدولية إلى حدّ كبير في أنظمتها القانونية المحلية، مما أدى إلى إنشاء الإطار القانوني للولاية القضائية العالمية. كذلك، كانت دول مثل ألمانيا وبلجيكا وإسبانيا وهولندا، تاريخياً، في طليعة الدول التي طبّقت الولاية القضائية العالمية.
تاريخياً، اعتمدت بعض الدول الأوروبية، ولا سيما بلجيكا وإسبانيا، قوانين أوسع نطاقاً للولاية القضائية العالمية، سمحت ببدء الدعاوى حتى من دون حضور المتهم شخصياً. على سبيل المثال، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رُفعت شكوى في بلجيكا ضدّ أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بالجرائم المرتكبة في مجزرة صبرا وشاتيلا. وبالمثل، حقّقت المحاكم الإسبانية في قضايا تتعلّق بالأعمال الإسرائيلية في غزة.
لكن، بسبب الضغوط السياسية والتداعيات الدبلوماسية، تمّ تعديل القوانين الوطنية لتقليص صلاحية المحاكم المحلية في تطبيق قوانين الولاية القضائية العالمية. على سبيل المثال، ضيّقت بلجيكا وبريطانيا نطاق ممارسة المحاكم الوطنية للولاية القضائية العالمية بشكل كبير بعد ضغوط سياسية أبرزها تلك المتعلقة باعتقال مسؤولين إسرائيليين (شارون في بلجيكا، وتسيبي ليفني في بريطانيا)، وبدأت بعض الدول الأخرى تضع شروطاً أكثر صرامة، مثل شرط وجود المتهم على أراضيها أو موافقة مدعٍ عامّ رفيع المستوى.
وتسبّبت الجرائم التي يرتكبها إسرائيليون، بازدواجية أخلاقية وقانونية للدول الأوروبية في إطار تطبيق القانون الجنائي الدولي:
1- تطبيق الولاية القضائية العالمية: في وقت استقبلت العديد من المحاكم الأوروبية قضايا تقدّم بها مواطنون في قضايا متعلقة بجرائم ارتكبت في سوريا أو أفريقيا، إلّا أنّ الاعتبارات السياسية والخشية من توتر العلاقات السياسية مع "إسرائيل" يجعلهم متمسّكين بشروط صارمة خاصة في القضايا المتعلقة بالمسؤولين الإسرائيليين ومنها اشتراط حضور المتهم شخصياً إلى المحكمة.
2- تطبيق الالتزامات بموجب نظام روما الأساسي: بالرغم من أنّ معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هم أطراف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والذي يعني أنّ تلك الدول أدرجت جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية والإبادة الجماعية في قوانينها الوطنية، إلّا أنّ العديد منها أعلن عن نيّته التملّص من تلك الالتزامات في معرض واجباتهم باعتقال بنيامين نتنياهو المطلوب للحكمة الجنائية الدولية.