الصراع الدولي والإقليمي في أفريقيا: السودان وليبيا نموذجاً

رغم خطاب "الانعزالية" الذي ارتبط بإدارة ترامب حاليًا، فإن واشنطن واصلت حضورها النشط في أفريقيا عبر ما يمكن وصفه بـ"دبلوماسية الصفقات".

0:00
  •  التدخلات الخارجية في السودان وليبيا أدت أيضاً إلى تهميش المؤسسات الإقليمية والدولية.
    التدخلات الخارجية في السودان وليبيا أدت أيضاً إلى تهميش المؤسسات الإقليمية والدولية.

تشهد القارة الأفريقية اليوم موجة جديدة من التنافس الدولي والإقليمي، تعيد إلى الأذهان "التكالب الاستعماري" على القارة في القرن التاسع عشر، لكن هذه المرة بصيغ وأدوات مختلفة، ولكن تبقى الرغبة في الهيمنة والإخضاع وتحقيق المصالح الخارجية على حساب المصالح الوطنية هي الملامح الأبرز في هذا المشهد. 

وفي خضم هذه الموجة، تتقاطع مصالح القوى الكبرى التقليدية (الولايات المتحدة وأوروبا) مع القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا، إلى جانب قوى متوسطة تبحث عن موطئ قدم في القارة.

إضعاف الحلول الوطنية

ورغم أن هذه الموجة من التنافس الدولي في أفريقيا تبدو حاليًا أقرب إلى حرب باردة جديدة، فإن نمط التدخلات في السودان وليبيا يكشف عن مؤشرات مقلقة لاحتمال تطور الصراع إلى مواجهات مباشرة أو حروب بالوكالة ربما ستدور على أراضي القارة في المستقبل القريب إذا ما استمرت الوتيرة نفسها. يأتي ذلك في ظل تفكك النظامين الدولي والإقليمي من جهة، وضعف القوى الوطنية، ما يجعلها عُرضة للاستقطاب خلف الأجندات الخارجية  من جهة أخرى.

تُعدّ ليبيا والسودان نموذجين بارزين للصراع الدولي والإقليمي في أفريقيا، حيث اتسم التدخل الخارجي فيهما بدعم وتوظيف المليشيات، وتعميق الانقسامات الداخلية، وإضعاف المؤسسات الوطنية والقوى السياسية الوطنية المحلية، ما جعل الحلول الوطنية تتراجع أمام حسابات القوى الدولية التي تتنافس على النفوذ والمصالح في كلا البلدين، وخصوصاً مع تعمُّق الأزمات والصراعات في البلدين.

واجه البلدان (ليبيا والسودان) تحديات الانتقال السياسي وصراعات مسلحة معقدة، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية من قبل القوى الدولية والإقليمية. وقد جعل ذلك من الصعب التوصل إلى حلول وطنية مستقرة وقابلة للاستمرار على أرض الواقع.

التنافس بين القوى الكبرى

رغم خطاب "الانعزالية" الذي ارتبط بإدارة ترامب حاليًا، فإن واشنطن واصلت حضورها النشط في أفريقيا عبر ما يمكن وصفه بـ"دبلوماسية الصفقات" بهدف: منافسة الصين في الحصول على الموارد الحيوية واحتواء النفوذ الروسي المتزايد.

وأصبحت "دبلوماسية الصفقات" المحدد الأساسي في تحركات الإدارة الأميركية الحالية، على حساب المبادئ والقيم أو التعاون مع المنظمات الإقليمية والدولية متعددة الأطراف. وبدلاً من دعم حلول وطنية للأزمات والصراعات، باتت الأولوية تحقيق المصالح الأميركية، حتى ولو جاء ذلك على حساب أصحاب المصلحة الحقيقيين داخل البلدان المعنية.

في المقابل، تسعى روسيا إلى تعزيز نفوذها العسكري والسياسي من خلال مجموعات مثل "الفيلق الأفريقي" ("فاغنر" سابقًا) في ليبيا والسودان على سبيل المثال، فيما تراهن الصين على نفوذ اقتصادي يقوم على مبدأ "عدم التدخل" في الشؤون الداخلية للآخرين، وهو ما أكسبها احترام الحكومات والشعوب على حدٍ سواء.

أما بشأن بعض القوى الأوروبية الأخرى، فقد تراجع نفوذ فرنسا في منطقة الساحل، لكنها تحاول إعادة التموضع في القرن الأفريقي. وتسعى إيطاليا للعودة عبر بوابة ليبيا، مدفوعة بمخاوف الهجرة ومصالح الشركات. وألمانيا بدورها تتحرك لحماية مصالحها الاقتصادية والترويج للنظام الدولي القائم على القواعد في ضوء تراجع النفوذ الغربي.

ليبيا: تكريس الانقسام

منذ سقوط نظام القذافي عام 2011، أصبحت ليبيا ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية. وبدلاً من دعم مسار وطني جامع، أفرزت تلك التدخلات نموذجاً قائماً على الانقسام بين سلطتين متنافستين حتى على التحالف والاستقواء بالأطراف الخارجية: حكومة طرابلس المعترف بها دولياً في الغرب وسلطة موازية بقيادة خليفة حفتر في الشرق والجنوب.

وفي النتيجة، انتهت جميع المبادرات الأممية – من اتفاق الصخيرات (2015) إلى ملتقى الحوار السياسي (2020) وخارطة طريق جنيف (2021) – إلى الفشل بسبب تغليب المصالح الخارجية.

وتجلى النهج البراغماتي في هذا البلد - الذي يتسم بالتراجع عن القيم والمبادئ في مواقف القوى الدولية بشأن حل الأزمات والصراعات عبر دعم الحلول المملوكة وطنيًا، وبدلًا من ذلك التركيز على السعى لتحقيق مصالح خاصة بتلك الأطراف- مؤخراً في مؤتمر روما (سبتمبر/أيلول 2025) حين رعت قوى دولية لقاءً بين ممثلين عن الدبيبة وحفتر، في خطوة شرعنت عملياً الانقسام القائم منذ سنوات في البلاد، بل وأقرت بظاهرة "الحكم العائلي" في الجانبين، ما يعني التخلي على الأطر الوطنية الأشمل والأجدر بتحقيق نظام سياسي عادل ومستقر يحقق تطلعات الغالبية من القطاعات والفئات في البلاد.

السودان: ساحة للصراع الإقليمي والدولي

منذ سقوط نظام البشير في أبريل/نيسان 2019، أصبح السودان ساحة صراع نفوذ إقليمي ودولي. أدت "الرباعية الدولية" (تضم سفراء واشنطن ولندن والرياض وأبو ظبي بالخرطوم) دوراً محورياً في رسم المشهد، خصوصاً بعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، غير أن هذا التدخل أسهم في فشل الانتقال السياسي وانزلاق البلاد إلى الحرب التي اندلعت في أبريل 2023.

مرة أخرى، وفي بيانها الأخير الصادر في 12 سبتمبر/ أيلول الجاري بشأن السودان، أعادت الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، مصر، السعودية، والإمارات) إنتاج نهج تدخلاتها نفسه منذ ما بعد التغيير الذي جرى في البلاد عام 2019، فقد جاء البيان كنوع من الوصاية الصريحة التي تمارسها أطراف خارجية تسعى لفرض حلول تخدم مصالحها، فيما تتجاهل بصورة واضحة تطلعات الشعب السوداني وإرادته الوطنية. 

 في المقابل، اتخذت روسيا والصين موقفاً داعماً للمكون العسكري والقوى السياسية الوطنية الأقرب إليه، إذ سعت موسكو إلى تعزيز وجودها عبر مشروع قاعدة لوجستية على البحر الأحمر، وإن واجه ذلك ضغوطاً إقليمية ودولية أبطأت تنفيذه على أرض الواقع. أما الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة – الاتحاد الأفريقي – "إيغاد")، فبقيت ذات تأثير هامشي مقارنة بالفاعلين الدوليين.

غياب الفاعل الإقليمي

تكشف تجربتا السودان وليبيا ضعف الدور المستقل للمنظمات الإقليمية، فالاتحاد الأفريقي، رغم الحديث عن "تقسيم عمل" مع الأمم المتحدة، ولا سيما في قضايا السلم والأمن وحل الصراعات والأزمات في القارة الأفريقية، لم يتمكن من قيادة مبادرات حقيقية لحل المعضلات التي ظلت تواجه هذين البلدين، وظل تابعاً لإرادة القوى الكبرى، كذلك، في العديد من الملفات الأخرى.

إن التدخلات الخارجية في السودان وليبيا لم تقتصر على تغليب مصالح القوى الدولية والإقليمية على حساب الحلول الوطنية، بل أدت أيضاً إلى تهميش المؤسسات الإقليمية والدولية بعد تآكل المبادئ والقواعد التي تقوم عليها هذه المؤسسات. وهكذا، أصبحت الأزمتان نموذجين واضحين لكيفية إعادة تشكيل المشهد الأفريقي وفق أولويات الخارج، لا وفقاً لمصالح شعوب القارة وأولوياتها.