الشيخ نعيم قاسم أميناً عامّاً لحزب الله... دلالات ورسائل

انتخاب الشيح نعيم قاسم في الوقت الحالي يعني بالنسبة للكيان الصهيوني، أن حزب الله قد تمكّن فعلاً من ملء كلّ الأماكن الشاغرة في صفوفه وعلاج الخلل الأمني الذي مكّن العدو من اغتيال أمينه العام السابق وبعض قادته.

  • ماذا يعني انتخاب أمين عام جديد لحزب الله والحرب مستمرة؟
    ماذا يعني انتخاب أمين عام جديد لحزب الله والحرب مستمرة؟

تنشأ الحركات والأحزاب النضالية، بصفة عامّة، بناء على نظرية أو عقيدة ومشروع ثوريّ، سواء في مواجهة الاستعمار أو في مواجهة عملاء الداخل المرتبطة مصالحهم به، لكن في بعض الأحيان تطغى الجاذبية القيادية لأحد الزعماء حتى على عقيدة الحزب أو الحركة فترتبط الجماهير والكوادر، بصورة غير واعية، بشخص الزعيم وهنا تتراجع العقيدة والمشروع الثوري وتبرز الشخصية القيادية بمنتهى القوة، بحيث يصبح القضاء عليها، عبر الاغتيال أو الاعتقال أو حتى الانحراف السياسي، مقترناً بالقضاء على الحزب والحركة ذاتها أو على الأقل إضعاف تأثيرها.

في التاريخ الحديث تابع جيلنا بمنتهى الإبهار نضال حزب الدرب المضيء في بيرو بقيادة البروفيسور أبيمال غوزمان (الرئيس جونزالو) أثناء الثمانينيات ضد الطغمة الفاشية الحاكمة، لكن بعد القبض على الرئيس جونزالو وعدد من قيادات الحزب تراجعت الحركة كثيراً. لم تسقط حركة الدرب المضيء بكلّ تأكيد وما زالت مستمرة لكن ليس بالقوة نفسها أو الزخم القديم بالرغم من أنها تقوم بعمليات عسكرية بين الحين والآخر.

أما في منطقتنا العربية، فقد شاهدنا كيف ضعفت التجربة القومية العربية التحررية بعد وفاة الزعيم العظيم جمال عبد الناصر، وبغض النظر عن أسباب الضعف الأخرى فإن الحقيقة أن الكثير من الجماهير ارتبطت بشخصية الزعيم عبد الناصر أكثر من ارتباطها بمشروعه، وبالتالي كان من السهل تمرير المواقف الاستسلامية اللاحقة.

وبالرغم من تأكيد أن الاغتيالات أو الاعتقالات السياسية لا يمكنها أن تلغي حركة مقاومة مهما كانت قسوتها، فمن الضروري كذلك الاعتراف بأنّ الارتباط بالجاذبية القيادية لأحد الزعماء أكثر من العقيدة يمثّل سلبيّة خطيرة للغاية بالنسبة لأيّ حركة ثورية، وهو ما سعت المقاومة الإسلامية والعربية إلى تجاوزه في نضالها عبر تأكيد أنّ العقيدة والمشروع التحرّري هو الأساس وليس القائد، وربما كان هذا الوعي هو أحد أسباب حرص حزب الله على الإعلان عن انتخابه للشيخ نعيم قاسم كأمين عامّ جديد عقب استشهاد سيد شهداء الأمة سماحة السيد حسن نصر الله (قده). 

لا ريب أنّ وجود الشيخ نعيم قاسم كقائد لمسيرة الحزب في الفترة المقبلة، كان أحد الاحتمالات القوية خاصة أنه بدأ عمله الكفاحي منذ السبعينيات في حركة أمل تحت قيادة الإمام المغيّب موسى الصدر، وكان لاحقاً من مؤسسي حزب الله، واستمر لفترة طويلة كنائب للأمين العام (1991 – 2024)، أي أنه يمتلك خبرات وتجارب كبيرة في العمل المقاوم، يضاف إليها تمتّعه بثقافة واسعة، فسماحة الشيخ هو مؤلف الكتاب الوحيد الصادر من داخل الحزب عن تاريخ وظروف تأسيسه، بالإضافة إلى 25 مؤلّفاً آخر، وهو حاصل على شهادة البكالوريوس في الكيمياء من الجامعة اللبنانية، ناهيك عن تمكّنه القوي من العلوم الشرعية حيث تتلمذ على يد المرجع الراحل سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (قده).

قبل انتخاب الشيخ نعيم قاسم كان قد ساد الاعتقاد بأن هذا الإجراء سوف يتمّ تأجيله لما بعد انتهاء الحرب القائمة حالياً، كما تصوّر البعض أن الحزب ربما يلتزم بنهج القيادة الجماعية خلال الفترة المقبلة، ربما خشية على حياة الأمين العامّ الجديد من استهداف الكيان الصهيوني، لكن على العكس من هذه التوقّعات فقد قام مجلس شورى الحزب بانتخاب الأمين العام الرابع له، في أثناء المعارك، وهو ما قد يعدّ دلالة قوية على أنّ البنية التنظيمية للحزب لم تتأثّر بموجة الاغتيالات الصهيونية الأخيرة.

في المقابل، ومن خلال الظهور الإعلامي لسماحة الشيخ نعيم قاسم، فقد كان حريصاً على التأكيد بأنّ خطط الحرب التي وضعها سماحة الشهيد السيد حسن نصر الله (قده) مستمرة، وأن القيادة الجديدة في الحزب متمسّكة بمواصلة الطريق نفسه. فمن الواضح أن عنف ضربات الحزب الموجّهة للعدو الصهيوني يزداد بمنتهى القوة، بل وصل الأمر إلى مهاجمة منزل رئيس وزراء العدو ذاته عبر طائرة مسيّرة، اقترنت واقعياً بقيادة سماحة الشيخ نعيم قاسم الجديدة، وبحسب سياسة إيلام العدو التي أعلن عنها بنفسه، في دلالة فهمها الكيان الصهيوني بأن الأمين العام الجديد، رغم مظهره الهادئ جداً، قد يكون أكثر شراسة ممن سبقه، خاصة أنه يتولّى هذه المسؤولية وهو معبّأ، إضافة إلى كراهيته التقليدية للكيان الصهيوني، بمشاعر الغضب والرغبة في الثأر، وفي ظروف الحرب التي قد تتيح له قدراً أكبر من الحرية في اتخاذ قرارات توجيه الضربات الموجعة للعدو، والتخلّص من الضغط الداخلي لليمين اللبناني.

لكن تبقى الدلالة الأكثر خطورة والتي تضع العدو في مأزق حقيقي، هي أنّ هذا الانتخاب في الوقت الحالي يعني بالنسبة للكيان الصهيوني، أن حزب الله قد تمكّن فعلاً من ملء كلّ الأماكن الشاغرة في صفوفه وعلاج الخلل الأمني الذي مكّن العدو من اغتيال أمينه العام السابق وبعض قادته، وأنه يتحرّك لمواصلة حرب استنزاف طويلة بما يعني أن أزمة سكان مستعمرات الشمال قد تستمر لفترات أطول، وهو ما لا يمكن لحكومة نتنياهو تحمّله. 

وربما أدرك الإعلام الصهيوني وبعض قادة "جيش" العدو هذه الحقيقة فبدأت الدعوات لضرورة التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع لبنان، في محاولة للخروج من المستنقع اللبناني وتحقيق مكاسب صورية بدلاً من تحوّل الأمر في الميدان إلى عدّاد للخسائر المتوالية في الجنود والعتاد، كلما مرّ وقت أطول على اغتيال الشهيد السيد حسن نصر الله (قده)، بينما ما زالت أهداف العدو تقتصر بسذاجة على تنفيذ الاغتيالات التي أثبتت الوقائع الميدانية أنها لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي مطالبات (اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان) سيكون من الصعب على رئيس الوزراء الصهيوني القبول بها بعد أن رفع سقف أهدافه في لبنان بالقضاء على الحزب ونزع سلاحه، وبحسب الإعلام الصهيوني فإنّ أيّ اتفاق مع بقاء قوة حزب الله سيكون مثقوباً وسيحوّل سكان الشمال الصهيوني إلى درع بشرية.

وبالرغم من القوة التي يواجه بها الحزب محاولات الكيان الصهيوني للغزو البري للبنان، وفشل هذه المحاولات حتى في احتلال كيلومتر واحد حتى الآن، فالواقع أنّ المعيار الأساسي الذي من الممكن أن نقرأ عبره نوايا قيادة الشيخ نعيم قاسم تجاه الكيان الصهيوني، هو توجّهات القوة الصاروخية والمسيّرات في فترة قيادته والتي سعت، عبر زيادة قوة القصف تجاه المستعمرات الحدودية، ثم رسائل التهديد لسكان حيفا و"تل أبيب"، لتوجيه رسالتين: أولاهما أن لا عودة لسكان الشمال المحتل مهما كانت التضحيات، بل ربما سيكون على سكان مناطق أخرى ضرورة البحث عن مأوى، وهنا تعي قيادة حزب الله الجديدة مدى ما يمثّله هؤلاء من شوكة في ظهر رئيس حكومة العدو، كونها المرة الأولى التي يعاني فيها الداخل الصهيوني المحتل من تشريد وتهجير لمواطنيه.

وثانيهما: وهي الرسالة التي وصلت عبر المسيّرة المتوجّهة إلى منزل رئيس وزراء العدو في قيسارية، بأن لا مجال للفصل بين لبنان وغزة، وهي تأتي كردّ واضح على المحاولات الأميركية المبذولة لخوض مفاوضات وقف إطلاق نار بين لبنان والكيان الصهيوني يتمّ عبرها الفصل بين الساحتين حتى من دون التوصّل إلى اتفاق. 

لقد استفزّت هذه الدلالات وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت بدرجة كبيرة، كونها تحطّم الصورة الإعلامية التي أراد الكيان المؤقت نشرها بين العالم العربي بأنّ حزب الله قد تحطّم تماماً ولم يتبقَّ في قدراته سوى القليل، وفي محاولة مضحكة للتغلّب على هذا الاستفزاز قام بنشر صورة لسماحة الشيخ نعيم قاسم على حسابه بمواقع التواصل الاجتماعي قائلاً: "تعيين مؤقت.. لن يطول"، وإزاء ردّ الفعل الساذج هذا يمكننا الاستنتاج أنّ حزب الله بإعلانه عن شخصية أمينه العام الجديد تمكّن من تحطيم الصورة الإعلامية التي تسعى الحكومة الصهيونية لإثارتها بهدف إظهارها كمنتصرة ولو إعلامياً فقط.

على الجانب الداخلي اللبناني، فإنّ انتخاب أمين عامّ جديد لحزب الله، يعني أنّ المعادلة السياسية اللبنانية لن تتغيّر للأفضل بالنسبة لليمين الذي أصبح يراهن بصراحة في الفترة الأخيرة على هزيمة الحزب في المعركة والقضاء عليه، في محاولة تتمّ للمرة الثانية لتحقيق منجزات سياسية عبر القوة الصهيونية والسلاح الأميركي، وهو ما بدا أنه قريب من التحقّق بعد استشهاد سماحة السيد حسن نصر الله (قده)، لكن انتخاب الأمين العامّ الجديد أعاد الوضع الداخلي في لبنان إلى نقطة الصفر، وربما يكون الأسوأ بالنسبة لمجموعة عوكر هو أن يتمكّن الحزب من فرض شروطه في نهاية هذه الحرب بما يؤدي إلى انتهاء دورها في لبنان، كما انتهى دور حزب الكتائب سابقاً عقب الحرب الأهلية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ومحاولة الأميركيين البحث عن بدائل كي يمكنها المشاغبة مع المقاومة الإسلامية مستقبلاً.

إذاً فالإجراء الذي اتخذه حزب الله بضرورة انتخاب أمين عامّ جديد والإعلان عنه في هذا التوقيت تحديداً، بينما تحتدم المعركة في الجنوب اللبناني، يأتي في إطار القرار المتخذ سابقاً والذي أعلن عنه من قبل الشهيد السيد حسن نصر الله (قده)، بوحدة الساحات وضرورة مواصلة الحرب حتى إجبار العدو الصهيوني وداعميه على الرضوخ لمطالب محور المقاومة أو مواصلة حرب الاستنزاف بمنتهى الصبر حتى تتحوّل الفرقعات الإعلامية الصهيونية لهزائم واضحة لا يمكن إنكارها، وتصبح الأحاديث الصهيونية والدولية بوقف إطلاق النار المقترنة بالتهديد والوعيد مجرّد صرخات استغاثة وتوسّل على غرار ما يحدث للقيادات الأوكرانية حالياً.