السيّد

كلمة واحدة لألف زهرة. فيها تحتشد المعاني، ويضيق الشرح، وتصطلح عليها ألوان الأفئدة.

0:00
  • السيّد. الكلمة التي أصبحت أنت.
    السيّد. الكلمة التي أصبحت أنت.

لم تكن سوى أنت، وحدك السهل الممتنع. العادي جداً كالبرتقال في مسقط رأسك، الاستثنائي جداً كشذى زهره في نيسان. ماذا تُسَمّى المسافة بين زهر البرتقال وعطره؟ ماذا يُدعى البرزخ بين العطر ووقعه في القلب؟ في الحياة ثمة أشياء لا تُقال، تماماً كأحوال البرتقال. أشياء لا أسماء لها.

تتعذّر على اللغة فتعتذر عن البوح. يدانيها الوجد بالمجاز، يداويها الذوق بالاستعارة، يدور حولها توقاً مثل كوكب يسبّح في مداره، لكن عبثاً يبلغ المبتغى، على رغم قوة الجاذبية. 

هل بلغك الكلام؟

لم تكن سوى أنت، في الحضور والغياب. أنت السيّد و"السيّد". أنت المحترم في قاموس اللغة، أنت النبيل، ذو المقام، الحر، المالك، المَلِك، المولى، سيد نفسه، الحاكم، سليل الأشراف من نَسَب الرسول. 

في معاجم القلوب أنت السيّد فحسب. كلمة واحدة لألف زهرة. فيها تحتشد المعاني، ويضيق الشرح، وتصطلح عليها ألوان الأفئدة. ما أُعطيت لأحد غيرك. أنت ولا أحد غيرك.

يكفي أن يُقال "السيد"، ولا يزيد اللسان حتى يُفصح. السيّد.. القريب والشعبي والمُهاب والقائد والبصير والمتواضع والخلوق والنبيل والمتسامح والمتسامي والمقاتل والشهيد. الرمز والقدوة. النموذج والأيقونة ومجلى صفات السماء. 

السيّد. الكلمة التي أصبحت أنت. المكتفية بذاتها، غير المتعدية بوهجك. يكفي أن تُقال كي تُحرّر الشحنات الكامنة في المعنى، كي تجمع الألوان المبعثرة في قوس قزح يسطع في الزمن الكالح والمرّ. كما اكتسبتها اصطفتك. أنت الجامع في عمامتك الوحدة في كثرتنا، والعزيمة في عثرتنا، والكمون في قدرتنا. وأنت المنفرد، مثل برتقال أعطى للون اسمه. 

في الحضور والغياب، لم تكن سوى أنت. حضورك في مواسم الانتظار تدلّى. كَرْمُك الثمار من كلام. غيابك الشجى، عذوبة الشعاع على مرآة الأقحوان. يفيض الشوق ولا يبلغ منتهاه. 

أوَليس كل شوق يسكن باللقاء لا يُعوّل عليه؟ 

لم تكن سوى أنت، أنت السيّد و"السيّد". سيّد المعنى والكلام، سيّد البدايات والختام. 

كأن وداعاً واحداً لا يكفي. في الطرق المكتظة بين زمنين احتشدنا. عند التقاطع المزدحم بين مَصارع الكرام وطاعة اللئام. تتسع المساحات لوجوهنا ولا تسع الحزن في أرواحنا. 

كان الكون يعدّ كل شيء بعناية. يرتب النجوم في مواضعها. يلغي مواعيد الغد للصبح القادم. يوازن برودة الطقس بحرارة القلوب المحتشدة، ويلوّن الغمام. 

قاتِلوك كانوا هناك. فعّلوا غباءهم للمرة الأخيرة. حضروا، وعلى أسنة الرماح رأس. مرّت الطائرات فوق الرؤوس. التهب التاريخ. توقّدت الثورة في العروق وتوهّج الحسين. أليس هذا ترتيب الكون؟ 

في الانتظار الطويل نسينا كل شيء، أعمارنا وأحلامنا وأرزاقنا، وبيوتنا المهدّمة وسائر حياتنا، وكنت أنت، وحدك أنت، ساطعاً، شامخاً، عصياً على الوصف، متعذراً على اللغة، أجمل وأنقى وأصفى ما فينا. نومئ إليك. 

هل بلغك الشوق؟ 

لم تكن سوى أنت، وحدك في حزننا الجميل. مثل سكون النون في الحزن، وداعة النون في ختام اسمك، شوق الواو بين النون والنون، سرّ النون في النون. 

وأنت ترحل إلى طباعك التامة كانت 85 طناً من الموت تعيد تشكيل العالم. تفصل ما قبلك عمّا بعدك. تهزّ ضمير العالم، وكان صمتك أبلغ من الكلام. 

ما آن للحزن أن ينتهي يا سيّد الغمام. لكنا على وعد مع النور، كشمس تبزغ في سحب وداعك، كدفء يكسو برد الغياب.

دَنَت لحظتك المُشتهاة، والقلب تعذّر من فرط مراميه.

في الحياة ثمة أشياء لا تُقال، مثل مراتب الزهر، مثل مدار البرتقال. 

آن لحزنك أن يستريح.. اكتمل لون البرتقال.