السودان يتداعى: هل يتكرر السيناريو الليبي؟

في حال عجزت الفواعل المحلية، الإقليمية والدولية عن احتواء التداعي الأمني في السودان، فيجب الاستعداد لما هو أسوأ في الساحل، وسنكون أمام إقليم أكثر ارتباكاً وأشد هشاشة.

  • السودان يتداعى: هل يتكرر السيناريو الليبي؟
    السودان يتداعى: هل يتكرر السيناريو الليبي؟

تنبئ المؤشرات والتقارير المستقاة من السودان بمزيد من التفكّك في البنية الأمنية المحلية ستقود حتماً إلى تدهور أمني سيتجاوز حدود الدولة السودانية نحو دول الجوار. وبحكم حالة الانقسام العسكري المتمثلة بالاحتراب والمواجهات المسلحة وصراع السيطرة على المواقع بين قوات الجيش وقوات التدخل السريع، فإنّ المرتقب هو إيغال في التشظي داخل بنى الدولة ومؤسساتها السياسية، ما سيفضي إلى انفراط حتميّ للحوكمة الأمنية للإقليم الجغرافي السوداني قد يسوق الدولة إلى حرب أهلية محتملة.

إن العداء المستحكم بين البرهان وحميدتي، والرؤية الصفرية لحل الصراع التي تنطوي عليها خطاباتهما (إلى غاية الآن على الأقل)، وهشاشة المؤسسات الأمنية في السودان ومشارفتها على الانهيار حتى قبل نشوب المواجهات المسلحة، هي عوامل من بين أخرى تفرض التعامل مع احتمال الفراغ الحوكمي الأمني في إقليم السودان وانفلات حدوده على أنه أمر واقع لا محالة، وتستدعي التحضّر لسيناريو الحرب الأهلية وارتداداتها الإقليمية في بلد معروف بصراعاته الإثنية، وبالأخصّ من الدول الواقعة عند تخومه، والتي يرجحّ تأثرها بالتهديدات التي سيشكل الوضع الداخلي المتردي للسودان بيئة مواتية لانبعاثها.

هذا تحديداً ما ستواجهه الدول التي تتشارك النطاق الجغرافي لإقليم الساحل والصحراء الكبرى، وهذا ما لا ينبغي لها إهماله في الحسابات الأمنية والاستراتيجية للمنطقة على المدى القصير، بدءاً من ليبيا الواقعة على الحدود الشمالية الغربية للسودان، وتشاد التي تتقاسم معه أزيد من 1400 كلم من الحدود البرية من الناحية الشرقية، وصولاً إلى النيجر ومالي غرباً.. وحتى الجزائر التي تنتمي إلى الكتلة الجيوسياسية نفسها.

لا ريب في أنّ هذه الدول، وكل الدول ذات المصلحة في الإقليم، وهي ترى ما يحصل في السودان، قد استذكرت سيناريو الانهيار المشابه الذي سبق أن عاشته ليبيا عقب انفجار أزمتها الداخلية عام 2011 وما تلاها من تدخل عسكري مدمّر لحلف شمال الأطلسي أتى على ما تبقّى من سراب الحوكمة الأمنية في ليبيا ما بعد القذافي تاركاً إياها والدول المجاورة لها تواجه حتفها الأمني منفردة.

ومما لا يحتاج برهاناً أن دول جوار ليبيا ما زالت تعاني من التبعات السلبية لتدخل "الناتو" إلى غاية اليوم. 

من المجدي أن نذكّر هنا بأنّ انهيار ليبيا وانقسام مؤسّساتها كان سبباً مباشراً في إغراق إقليم الساحل في حالة مزمنة من الاضطرابات الأمنية جسّدها تنامي التطرّف العنيف والراديكالية، وتزايد الإجرام المنظم و الهجرة، وتفشي الاتجار بالمخدرات والأسلحة... فكانت النتيجة المباشرة سير إقليم الساحل ودوله نحو أوضاع الفراغ الحوكمي في أقاليم عديدة شاسعة أدت إلى إحياء التوترات والمواجهات الداخلية القائمة على الخصومات الإثنية والدينية والمصلحية، إلى حالات الصراع على موارد القوّة وافتكاكها بقوة السلاح، وإلى استغلال البشر والمتاجرة بهم. 

ومما يجب استذكاره في هذا الصدد أنّ الانهيار الأمني في ليبيا قد سمح لتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" الإرهابي بتعزيز قوته، فنجح بفعل ذلك، ثم بتحالفه مع "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" سنة 2012، في افتكاك أقاليم مالي الشمالية؛ تومبوكتو وغاو وكيدال، معلناً بذلك انفصال إقليم أزواد عن إقليم دول مالي. ومعلوم أن هذه الوضعية إلى إقرار الحلّ الأممي رقم 2071 أفسحا الطريق أمام مجلس الأمن ولفرنسا بالتدخل عسكرياً في مالي.

ذلك أنّ أواصر التواصل الجغرافي المباشر بين الحدود الغربية للسودان وإقليم الساحل، وقابليتها للاختراق وعجز دول المنطقة عن مراقبتها والتحكم فيها بسبب طولها ووعورتها، ناهيك بضعف دول المنطقة والخلل الوظيفي متعدد الأبعاد الذي تعاني منه، ستجعل الإقليم الساحلي مفتوحاً على مصاريعه أمام حملات النزوح وتدفقات البشر الفارين من القتال وظروف العيش غير المحتملة التي ستنبثق عنه، وسيكون شبه مستحيل حينها التحكّم في الحدود ومراقبتها، كما سيصبح من العسير التمييز بين المهاجرين القسريين والأشخاص الذين يستغلون حالة الانفلات لتحقيق مآرب أخرى. 

وقد دقت نواقيس التحذير منذ بدأت أفواج النزوح تتوالى من السودان نحو دول مجاورة، لا سيما تشاد التي استقبلت وحدها 20 ألف نازح بينهم مسلحون أعلنت الحكومة نجامينا أنها أوقفت البعض منهم.

وفي غمرة هذا المدّ الكبير للمهاجرين القسريين، وبالنظر إلى الضعف الذي تعاني منه تشاد أمنياً واقتصادياً، وأخذاً في الاعتبار خصوصية التهديدات الأمنية في القارة الأفريقية والساحل والتي تتميّز بسرعة انتشارها وتحوّلها من قطرية إلى إقليمية بسبب العجز عن صدّها محلياً، فإنّ سيرورة انتشار التهديد نحو النيجر ومالي مرجّحة بقوّة. 

في ليبيا، الدولة الساحلية الأخرى التي تتقاسم حدوداً برية مع السودان في جنوبها الشرقي، والتي تعدّ دولة شبه فاشلة تعاني من عجز عن توحيد قواتها العسكرية ومؤسّساتها الأمنية، فإنّ التبعية الأمنية المتبادلة بينها وبين السودان تجعلها عرضة لسيناريوهات إرباك أمني أخطر ستفاقم حتماً من أزمتها، ولا يستبعد أن تكون أراضيها ممراً يستغله تجار البشر للوصول بالنازحين والمهاجرين نحو شواطئ المتوسط. 

تجلي هذه المعطيات، ولو نسبياً، الحرج الأمني الذي سيطال منطقة الساحل في حال تفاقم النزاع السوداني، سيناريو يبقى محتملاً في ظل الغموض الذي يكتنف مصير الهدنة ووقف إطلاق النار بين قوات الجيش وقوات التدخل السريع. في النتيجة، وفي حال عجزت الفواعل المحلية، الإقليمية والدولية عن احتواء التداعي الأمني في السودان، فيجب الاستعداد لما هو أسوأ في الساحل، وسنكون أمام إقليم أكثر ارتباكاً وأشد هشاشة. 

وليس من حل لتجنب ارتدادات التداعي الأمني في السودان على إقليم الساحل ودوله غير التنسيق والتعاون الفعال بين الدول المؤثرة في المنطقة، وكذا الدول ذات المصلحة فيها، وبينها وبين المنظمات الإقليمية والدولية، بغية احتواء النزاع الناشب ووقف تفاقمه في أسرع وقت. وغير هذا، سنكون أمام مأساة إنسانية وكارثة أمنية جديدتين في السودان.. والساحل.

منتصف نيسان/أبريل تندلع مواجهات عنيفة في الخرطوم وعدة مدن سودانية، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وتفشل الوساطات في التوصل لهدنة بين الطرفين.