الذكاء الاصطناعي والأزمات الوجودية

لم يعد بإمكان البشرية تحمّل السياسات التي تعتمدها منظومة الهيمنة، ومن بينها الولايات المتحدة الأميركية الممسكة بالإمكانيات العلمية والتقنية، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي.

  • الذكاء الاصطناعي والأزمات الوجودية
    الذكاء الاصطناعي والأزمات الوجودية

يبدو واضحاً أنّ البشرية تفقد يوماً بعد آخر الوعود المذهلة التي تنطوي عليها التكنولوجيا. وبدلاً من أن يشكل الذكاء الاصطناعي وعلم التحكّم الآلي فرصة للمساعدة في حل المشكلات وإيجاد العلاجات للأمراض وإنقاذ الأرواح والبيئة وخلق فرص العمل والتخفيف من الفقر والجوع وزيادة النمو الاقتصادي وإدامة التنمية، يشهد العالم تراكماً غير مسبوق للأزمات في ظل غياب مسارات جدية للحل.

هذه ليست المرة الأولى التي تفشل فيها البشرية في استخدام الإمكانيات العلمية بطريقة جيدة؛ فالطاقة النووية التي شكل اكتشافها تطوراً علمياً نوعياً وتحولاً كبيراً على المستوى الإنساني استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية وأخواتها من دول منظومة الهيمنة بطريقة مدمرة. وقد تحولت الطاقة النووية إلى قنبلة موقوتة تهدد الجنس البشري بأكمله.

وهنا يكمن جوهر القضية. إنها الإدارة السياسية والاستراتيجية التي اعتمدتها منظومة الهيمنة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذه المرحلة التي سميت زوراً "الباكس أميريكانا" أو "السلام الأميركي" شهدت تراكماً غير مسبوق للأزمات العالمية على مختلف المستويات، إلى درجة أن الفيلسوف الفرنسي الشهير إدغار موران ابتكر في سبعينيات القرن الماضي مفهوم علم الأزمات (crisologie).

انطلق موران من واقع اتساع رقعة الأزمات التي عجز الإنسان عن فهمها واستيعابها، ورأى أن الأزمة انتشرت في مختلف مناطق الوعي المعاصر، ولا يوجد ميدان لا تشغله فكرة الأزمة، ولا حديث سوى عن وجود أزمة؛ أزمة الرأسمالية، وأزمة المجتمع، وأزمة الأزواج، وأزمة العائلة والقيم والشباب والبشرية.

منذ ذلك الوقت وحتى الآن، لم يتغير المسار؛ فالعالم يسير نحو الأسوأ وصولاً إلى التحذير من مخاطر وجودية ناتجة من استخدام الذكاء الاصطناعي. وقد كان لافتاً تحذير أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مؤخراً بشأن المسألة.

دعا غوتيريش إلى أخذ تحذيرات العلماء التي اعتبرت أنَّ "الذكاء الاصطناعي تهديد وجودي للبشرية لا يقل عن الحرب النووية بجدية بالغة"، وأشار إلى أنَّ "هناك إمكانات هائلة في استخدام الذكاء الاصطناعي، لكن من الواضح أن هناك مشكلات خطرة أيضاً، تتمثل في إمكانية إلغاء قرار البشر".

هذا الكلام سبقه بيان مشترك صدر بدعم من الرؤساء التنفيذيين لشركات الذكاء الاصطناعي الرائدة، أعربوا فيه عن قلقهم من "احتمال أن يؤدي تسريع الذكاء الاصطناعي إلى انهيار الحضارة".

في السياق نفسه، تضج التقارير الدولية المتنوعة بالتحذير من مخاطر التكنولوجيا وغيرها من القضايا التي لا تقل خطورة.

في تقرير التنمية البشرية (2021-2022) الصادر عن الأمم المتحدة الكثير من الإشارات حول هذه المخاطر. يحذر التقرير المعنون بـ"اللايقين" من تزايد "سيطرة خوارزميات الذكاء الاصطناعي على حياتنا"، ويشير إلى مخاطر "تحول كل جانب من جوانب حياة أي فرد متصل بالإنترنت إلى بيانات تباع وتشترى، ما يثير أسئلة مقلقة حول من يمكنه الحصول على المعلومات الشخصية الحساسة وكيفية استخدام هذه المعلومات".

ويكشف التقرير أنَّ "ما لا يقل عن نصف الضوضاء عبر الإنترنت تولده برمجيات آلية مصممة خصيصاً لإحداث البلبلة"، وأن الناس يغلب "لديهم الشعور بالإحباط والاغتراب" بسبب سلسلة لا تنتهي من الأزمات، مثل أزمات الغذاء وارتفاع درجات الحرارة وعدم المساواة في الثروة والنفوذ.

وللدلالة على فشل منظومة الهيمنة في إيجاد الحلول، يعترف التقرير بأن المعايير والمؤسسات التي اعتدنا الاعتماد عليها لتحقيق الاستقرار والازدهار لا ترقى إلى مهمة التعامل مع ما يسميه "عقدة عدم اليقين التي نعيشها".

هذا ما ورد أيضاً في التقرير البرلماني العالمي الصادر عن الاتحاد البرلماني الدولي في العام 2022. تحدث التقرير عن "تحديات عالمية تهدد استقرارنا وازدهارنا في المستقبل"، وعن "خيبة أمل عامة تهدد سلطة البرلمانات". مرة جديدة، امتلأ التقرير بتعداد الأزمات المتنوعة الصحية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية وانعدام الأمن الغذائي.

عند النقطة الأخيرة المذكورة، تكفي الإشارة إلى بعض الأرقام لإدراك حجم الكارثة التي نعيشها كبشر، فقد ارتفعت مستويات نقص التغذية بشكل كبير، وازدادت أعداد غير القادرين على تلبية متطلباتهم من استهلاك الغذاء بنحو 118 مليون نسمة عام 2020، بعدما ظلَّت من دون تغيير يُذكر لسنوات عديدة.

وعانى ما يزيد على 820 مليون شخص في العالم الجوع عام 2018، وارتفعت مستويات الجوع الحاد، وارتفع عدد الأشخاص الذين يتأرجحون على حافة المجاعة إلى ما يزيد على 40 مليوناً العام الماضي، وواجه 139 مليون شخص بسبب حرب أوكرانيا مشكلات ترقى إلى مستوى أزمة الغذاء في 24 بلداً. كل ذلك في ظل خلل كبير في توزيع الثروة، إلى درجة أن عدداً قليلاً من الأفراد يتحكّم في الثروة العالمية. 

أما أزمة البيئة، فهي لا تقل خطورة عن التهديد النووي والذكاء الاصطناعي. هي أزمة ولادة لعدد غير محدود من الأزمات المرتبطة. تشير التقارير إلى التأثير الكبير للتغيرات المناخية في ظاهرة اللاجئين والمهاجرين، وإلى أن 21 مليون شخص يغادرون منازلهم سنوياً بسبب الكوارث الطبيعية. 

وأثبت باحثون أن ارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى تزايد النزاعات الأهلية وإبطاء وتيرة النمو الاقتصادي، وأن كل ارتفاع في حرارة سطح الأرض بمقدار درجة مئوية واحدة يؤدي إلى تراجع الناتج الاقتصادي بنسبة 2،5%، وأن التغير الخطر في عصر "الإنتروبوسين"، وهو مصطلح يطلق للدلالة على العهد الذي بدأت فيه الأنشطة البشرية بإثارة تغيرات أحيائية جيوفيزيائية على الصعيد العالمي، يتفاعل مع عدم المساواة بين البشر. 

كلّ هذا ينبئ بإمكانية وصول العالم فجأة إلى نقطة حرجة لا عودة عنها. على الرغم من كل هذه المؤشرات الخطرة، تعثر مؤتمر المناخ الذي عقد في مصر مؤخراً، ما شكل دليلاً إضافياً على عدم استعداد أعضاء منظومة الهيمنة لتغيير مقارباتهم وسياساتهم التدميرية.

ولعل الشعار الذي رفعه المتظاهرون "تغيير الأنظمة وليس تغيير المناخ" يحمل دلالة كبيرة. لم يعد بإمكان البشرية تحمل السياسات التي تعتمدها منظومة الهيمنة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية الممسكة بالإمكانيات العلمية والتقنية، وعلى رأسها الذكاء الصناعي، وبالتالي فإنَّ مقاومة هذه المنظومة ومتفرعاتها في العالم لم تعد تهدف إلى تحسين شروط الحياة فحسب، إنما أصبحت شرطاً لازماً لاستمرار الحياة نفسها واستمرار الجنس البشري.