الخطة الإسرائيلية لغزة: فوضى مُنظّمة تُحكم بالميليشيات وتُدار بالمساعدات
نحن لا نعيش حرباً فقط. نحن نعيش لحظة تفكيك كبرى، لحظة يجري فيها تحويل الفلسطيني إلى كائن منزوع التاريخ والجغرافيا، يُطلب منه فقط أن يطيع!
-
تكشف "إسرائيل" عن المرحلة الثالثة من مشروعها: لا كيان، لا سلطة، لا حلم في غزة.
لا تحتاج غزة اليوم إلى خيال أدبي أو تحليل سياسي خارق لفهم ما يجري. من يعِش بين أنقاضها يعرف أن ما يحدث أكبر من حرب. غزة لا تُباد فقط؛ بل تُفكّك. يُفتّت سكانها كجماعة، كجغرافيا، كذاكرة، وكهوية.
يُجرَّدون من كل ما يمكن أن يُبقي الفلسطيني فلسطينياً. وما يبدو أنه "حلّ أمني" مؤقت من خلال تسليح ميليشيات محلية أو توزيع مساعدات عبر مشاريع أميركية، ليس إلا واجهة قبيحة لمشروع أعمق: احتلال غزة، وتهجير أهلها، من دون أن تتحمّل "إسرائيل" كلفة الاحتلال والتهجير.
لا جنود اسرائيليين دائمين، لا حكم عسكرياً، ولا إدارة مدنية، لا مسؤولية قانونية. فقط سماسرة محليون، ميليشيات مأجورة، ونظام فوضى منظم، يسحق غزة وأهلها ويمنعهم من أن يحلموا بشيء أكثر من "بقاء مؤقت".
ما تعيشه غزة خاصة، وفلسطين عامة، اليوم، ليس انحرافاً عن المسار التاريخي للاحتلال الإسرائيلي، بل ذروته المنطقية.
فمنذ أواخر السبعينيات، طوّرت "إسرائيل" نموذجاً يقوم على تفويض أدوات الحكم إلى "وكلاء محليين"، من دون التخلّي عن السيطرة بكامل تجلياتها وأشكالها. تجربة "روابط القرى" في الضفة الغربية لم تكن سوى بروفة أولى: حكم ذاتي منزوع السيادة، مجرد إدارة خدمية تابعة للإدارة المدنية الذراع المدنية لـ"جيش" الاحتلال الإسرائيلي في المناطق المحتلة عام 1967م، تسعى لفصل المجتمع الفلسطيني عن أي مشروع وطني تحرري، يؤسس لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة.
ثم جاء مشروع التسوية كتجسيد جديد للفكرة نفسها، ولكن بصيغة أكثر إقناعاً أمام المجتمع الدولي: حكم ذاتي محدود تحت سقف الاحتلال، من دون التزام فعلي بإقامة دولة فلسطينية. "إسرائيل" لم ترد من أوسلو سوى فرصة لتوكيل سلطة فلسطينية تقوم بالمهمات المدنية والأمنية بالنيابة عنها، وتحمي أمنها من دون أن تدفع ثمن الاحتلال.
لكن، حين طالب ياسر عرفات بالسيادة الفعلية، وبالدولة المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، أصبح عبئاً على الرواية الإسرائيلية. فاغتالته "إسرائيل" بوسائل متعددة — سياسية، أمنية، وربما بيولوجية. ولم يكن الاغتيال نهاية عرفات فقط، بل نهاية لفكرة الدولة في عيون صانعي القرار الإسرائيلي.
وللقطع النهائي مع مشروع الدولة، غذّت "إسرائيل" الانقسام الفلسطيني، وساعدت ضمنياً على تكريس سيطرة حماس في غزة من جهة، ومن جهة أخرى، إعادة تصنيع للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية حسب الرؤية الإسرائيلية، بهدف واضح: لا يوجد شريك، لا يوجد كيان موحّد، وبالتالي لا دولة. بهذا الشكل، خرجت "إسرائيل" من التزاماتها الدولية، وقدّمت نفسها كطرف عاجز عن تنفيذ حل الدولتين بسبب "الانقسام الفلسطيني"، بينما كانت هي الراعي الأول له، والمنتفع الأكبر منه.
واليوم، ومع حرب الإبادة التي لم تتوقف منذ 7 أكتوبر، تكشف "إسرائيل" عن المرحلة الثالثة من مشروعها: لا كيان، لا سلطة، لا حلم ولا حتى مجتمع. فقط أرض محروقة يُحكم ما تبقى من سكانها بميليشيات مرتزقة، بإشراف "الجيش" الإسرائيلي، وضباط الشاباك، وتُوزّع عليهم المساعدات ليس كحق إنساني، بل كأداة تحكّم.
اللافت أن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، رمزا التطرف الصهيوني الديني ضد كل ما هو فلسطيني، لم يُعلّقا علناً على فضيحة تسليح الميليشيات، رغم أنها تخرق كل مبادئ الأمن القومي الإسرائيلي المعلنة. لأن الحقيقة أن هذه الخطة ليست انحرافاً عن عقيدة الإسرائيليين، بل تتويجاً لها. فلا هم يريدون دولة فلسطينية، ولا سلطة فلسطينية، ولا حتى مجتمعاً فلسطينياً. بل مجرد تجمعات سكانية مسحوقة، تُدار بأدوات محلية، وتُفكّك ذاتياً، وتُركَل نحو المجهول كلما حاولت التماسك.
لذا، حسب تسريبات الصحافة الإسرائيلية، يقف في قلب هذه الخطة، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الرجل الذي يعلن جهاراً نهاراً أن غزة أرض إسرائيلية يجب إعادة احتلالها وترحيل سكانها. لكن، بدل أن يُرسل "جيشه" ليُعيد احتلال القطاع، يموّل الخطة بذكاء بارد: لدرجة تقليص موازنات الوزارات الحكومية، لتحويل الأموال إلى مشاريع توزيع المساعدات في غزة، عبر الوكالة الأميركية. والنتيجة؟ حكومة "إسرائيل" تموّل "الأمن الغذائي" المؤقت لسكان على وشك الموت، بينما تحرق منازلهم وتسلّح ميليشيات سرقة المساعدات الإغاثية التابعة لها للسيطرة على حياتهم اليومية.
حين تنتهي هذه الحرب — إن انتهت — لن تجد في غزة "سلطة بديلة" ولا "إدارة مدنية إسرائيلية" بل شظايا من مجتمع ممزق، يخاف بعضه بعضاً، ويتقاتل على رغيف خبز أو عبوة مياه. ستبقى "إسرائيل" حاضرة بقوة غيابها: لا تحكم، لكنها تقتل من يحاول أن يحكم. لا تدير، لكنها تموّل وتسلّح وتتحكّم. لا تظهر، لكنها تُملي على الجميع شروط الحياة والموت.
وهنا، يكمن جوهر الخطة: أن تفقد غزة كل مقومات الوجود السياسي، أن تغرق في فوضى دائمة، أن تصبح خريطة بشرية غير قابلة للترميم، حتى لا يجرؤ أحد على الحديث مجدداً عن "سيادة فلسطينية". وما أن يتم الإنهاك الكامل، سيأتي الطرد الجماعي كخطوة أخيرة — كـ"حل إنساني" تقترحه أطراف دولية باسم "إنقاذ المدنيين من الجحيم" الذي خلقه الاحتلال.
الخطر اليوم ليس فقط على غزة، بل على الفكرة الفلسطينية ذاتها. لأن ما يجري هنا هو اختبار ناجح لنموذج قد يُطبّق غداً في الضفة: تدمير ممنهج، ثم تفويض جماعات محلية تحت إشراف الاحتلال، ثم إدارة دائمة للفوضى بلا أفق سياسي.
نحن لا نعيش حرباً فقط. نحن نعيش لحظة تفكيك كبرى، لحظة يجري فيها تحويل الفلسطيني إلى كائن منزوع التاريخ والجغرافيا، يُطلب منه فقط أن يطيع، أن يتقاتل داخلياً، أن ينجو بلا كرامة.
لكن، رغم كل شيء، يبقى في هذا الرماد نبض. لأننا نعرف أن ما يجري ليس قدراً، بل خطة. والخطط يمكن أن تُفضَح، وتُقاوَم، وتُفشل، ولكنها تحتاج إلى قيادة واعية تدرك أولوياتها الحقيقية، تعرف من أين تبدأ: من الناس، من وجعهم، من صمودهم، من كرامتهم اليومية، وليس من شعارات الوطن فقط.