الحرب الأبدية: صراع أميركا مع ذاتها

الولايات المتحدة لا تزال عالقة في مأزق إعادة النظر في الحجج نفسها، والذهاب إلى المكان نفسه! لذا، حتى لو لم تنزلق إلى حرب أهلية، فمن الصعب أن نتصور أنها ستصل إلى حالة من السلام المدني.

  • الولايات المتحدة.. اتفاق على استمرار الخلاف.
    الولايات المتحدة.. اتفاق على استمرار الخلاف.

وقعت حادثة إطلاق النار في تجمع انتخابي للمرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب في مدينة بتلر في ولاية بنسلفانيا، السبت الماضي 13 تموز الجاري، والمنسوبة إلى شاب عشريني (يهودي) يدعى توماس ماثيو كروكس، لقي حتفه فوراً برصاص قناص من جهاز الخدمة السرية بعد مقتل أحد الحضور وإصابة 3، أحدهم ترامب نفسه.

أعادت الواقعة الحديث عن العنف السياسي الأميركي الذي أودى بحياة 4 رؤساء أميركيين: أبراهام لينكولن (1865)، وجيمس غارفيلد (1881)، ووليم ماكينلي (1901)، وجون كينيدي (1963)، واغتيل أيضاً شقيق الأخير روبرت كينيدي (1968) أثناء حملته الانتخابية الرئاسية.

والعنف سمة غالبة على حياة أميركا وتاريخها واجتماعها، ولا يمر يوم تقريباً من دون إطلاق النار في الأسواق والمدارس ودور العبادة ورياض الأطفال وأماكن العمل لأسباب عنصرية أو مشكلات وظيفية أو عائلية أو اختلالات عقلية أو عنف الدولة. وتعود جذور هذا العنف إلى روح المشروع الاستيطاني وعنفه وإبادته السكان الأصليين.

في أقل من 250 عاماً، خاضت الولايات المتحدة نحو 110 حروب، جلها حروب إمبريالية عدوانية أو حروب إبادة استهدفت السكان الأصليين. بعد إبادة الهنود الحمر، تم توجيه العنف ضد الأميركيين السود قبل إلغاء العبودبة وبعدها، وكان يتضمن قتلاً وإحراق منازل وكنائس وشنقاً خارج القانون بيد مستوطنين بيض للترويع والإخضاع.

الحرب الأهلية

لفت هذا العنف اهتمام مؤرخين وعلماء وكتاب. ومن أحدث الأعمال التي تناولت العنف والانقسام في أميركا كتاب مراسل "بي بي سي" السابق نيك براينت "الحرب الأبدية: صراع أميركا الذي لا ينتهي مع ذاتها"، الصادر في حزيران 2024، ورأى أن الديمقراطية الأميركية لم تكن أبداً بصحة جيدة، فمنذ تأسيسها كانت البلاد في انقسام دائم، وخاضت حرباً أهلية في القرن التاسع عشر (1861-1865)، ولا تزال تتجادل حول شروط سلام أو استسلام يثير الانقسام.

اندلعت الحرب الأهلية الأميركية بسبب معارضة ولايات الجنوب (الكونفيدرالية) قانون إلغاء العبودية الذي سنّه الرئيس أبراهام لينكولن، وكان القشة التي قصمت ظهر النظام الفيدرالي الأميركي المثقل بالانقسامات.

انتهت الحرب الأهلية بانتصار الشمال واستسلام كونفيدرالية الجنوب. وبعد عقد ونيف، وفي أعقاب انهيار حركة إعادة إعمار الجنوب، تم استبدال الفصل العنصري مكان العبودية في الجنوب الأميركي.

يعود براينت إلى أبعد من ذلك في التاريخ لتحديد جذور الاستقطاب المعاصر، وحتى أصول ظاهرة الرئيس السابق دونالد ترامب، أي إلى الولادة المضطربة التي شهدتها البلاد. لقد كان الانقسام دائماً هو الوضع الافتراضي. مهّد الانتصار على قوات المعاطف الحمراء البريطانية في معركة يوركتاون طريق الاستقلال، لكنه لم يكن يعني أن القومية الأميركية مسلم بها؛ فبين نهاية حرب الاستقلال (1783) وبداية مؤتمر فيلادلفيا الدستوري (1787)، بدا أن الولايات الأميركية قد تدخل اتحادين أو ثلاثة اتحادات كونفدرالية بدلاً من دولة واحدة، فيما كانت المستعمرات البريطانية السابقة تكافح للتغلب على عداواتها.

اتفاق على استمرار الاختلاف

والدستور الذي دفع به جورج واشنطن، وتم التوصل إليه في نهاية المطاف في فيلادلفيا، كان في نواحٍ كثيرة اتفاقاً على استمرار الاختلاف. والتنازلات التي أطالت مؤسسة العبودية وحصنتها، كصفقة فاسدة ثمناً للوحدة الوطنية، خلقت خط صدع يُرجح دائماً أن يتمزق وينفجر، بل ويهتز حتى يومنا هذا. وحتى الرئاسة السوداء لم تتمكن من إصلاح هذا الخلل. يمكن إذاً إرجاع عدة مشكلات معاصرة إلى أيام التأسيس. وغدت الديمقراطية الأميركية مريضة للغاية، لأنها لم تكن بصحة جيدة في معظم تاريخ البلاد.

"نحن الشعب" كلمتان مثيرتان افتتح بهما ديباجة الدستور، لم يُنظر إليها على أنها بيان شامل أو شعار شامل للديمقراطية الشعبية، بل إن هذا المصطلح غير المحدد يشير إلى ما يطلق عليه في المصطلحات الحديثة الجسم السياسي. ركزت الكثير من المداولات حول الدستور في مؤتمر فيلادلفيا على كيفية تقييد هذا الجسم السياسي في قيود معقدة، وبالتالي إنشاء آليات مضادة لحكم الأغلبية، مثل "المجمع الانتخابي" و"مجلس الشيوخ".

إنَّ وصف النتيجة بأنها تجربة في "الديمقراطية" أمر مضلل، فالآباء المؤسسون لم يهتموا لهذه الكلمة التي لا يمكن العثور عليها في إعلان الاستقلال أو الدستور. وعندما استخدم الرئيس الثاني للبلاد جون آدامز مصطلح democratical، كان المقصود منه الذم.

والخوف مما سمّاه بعض المؤسسين "إفراطاً في الديمقراطية" يفسر التفكير الكامن وراء مقولة آدامز التي عادت إلى الظهور خلال رئاسة ترامب: "تذكروا أن الديمقراطية لا تدوم طويلاً أبداً، وسرعان ما تهدر وتستنزف وتقتل نفسها. وحتى الآن، لم توجد هناك ديمقراطية لم تنتحر". لم يكن خوف آدامز من سلطة رئاسية غير خاضعة للرقابة، وهو المعنى المنسحب على المقولة في ما يتعلق بترامب. الأمر الأكثر إثارة لقلقه هو سلطة الشعب غير الخاضعة للرقابة.

إضعاف حقوق التصويت

لم يتم النص على حق التصويت تحديداً في الدستور الأميركي، وهو إغفال لا يزال يذهل العديد من الأميركيين. وحتى يومنا هذا، لا يوجد تأكيد إيجابي على حق التصويت. لقد تم صياغة حق التصويت بشكل سلبي، أي لا ينبغي إنكاره، بدلاً من منحه. ولسبب وجيه، يُطلق على التصويت في أحيان كثيرة اسم الحق المفقود.

لم تتمكّن الولايات المتحدة أخيراً من تحقيق ما يمكن وصفه فعلاً بالاقتراع العام إلا في منتصف الستينيات، مع إقرار قانون حقوق التصويت لعام 1965. وفي الجنوب الأميركي، تمكن السود أخيراً من الإدلاء بأصواتهم من دون التعرض لـ"اختبارات عدم الأمية" المهينة، إذ تُطرح عليهم أسئلة لا يمكن الإجابة عنها كتفسير جُمل غامضة في دساتير الولايات.

لكن بمجرد أن أصبح هذا التشريع التاريخي قانوناً، بدأت الجهود الرامية إلى إبطاله، فبدأ ما تبين لاحقاً أنها حملة دامت عقوداً لعملية نزع الديمقراطية، وقادها الحزب الجمهوري الذي ارتأى تقييد حقوق تصويت الأقليات لأن التغير الديمغرافي والانتقال نحو دولة أغلبيتها من الأقليات سيحابي الحزب الديمقراطي. ولقيت هذه الجهود دعماً مثيراً للقلق من المحكمة العليا تحت هيمنة المحافظين، إذ أصدرت أحكاماً تضعف أحكام قانون حقوق التصويت.

لا ينبغي النظر إلى اقتحام أنصار ترامب للكونغرس في 6 كانون الثاني 2021 بمعزل عن غيره. لقد كان ذلك تتويجاً لهجوم طويل الأمد على الديمقراطية سبق صعود ترامب. واستمر الهجوم بعد تفريق المتمردين وتنظيف أرضيات الكونغرس من الفضلات. في تلك الليلة، عاد 147 نائباً وسيناتوراً جمهورياً إلى المجلسين للإدلاء بأصواتهم لإلغاء فوز جو بايدن الرئاسي.

العنف السياسي

يُعدّ العنف السياسي جزءاً أساسياً من قصة الولايات المتحدة، رغم أن جزءاً كبيراً من هذا التاريخ تم دفنه وإخفاؤه. في نهاية الستينيات، وجدت لجنة عينها الرئيس ليندون جونسون للتحقيق في أسباب الميل الأميركي إلى الاغتيال السياسي أن البلاد تعاني "فقدان الذاكرة التاريخية أو التذكر الانتقائي الذي يخفي صدمات الماضي غير السارة"، وأشارت إلى أن "العقيدة الثورية التي يعلنها إعلان الاستقلال بفخر يتم الاستشهاد بها خطأً كنموذج للعنف المشروع".

 والحقيقة أن تمرد 6 كانون الثاني 2021 أظهر أن العنف السياسي ما زال يُرى مشروعاً، حتى إنه يُرى مجيداً. وهتف العديد من أنصار ترامب "1776" (عام الثورة الأميركية) أثناء اقتحامهم الكونغرس.

يستلهم العديد من متطرفي اليمين كلمات لتوماس جيفرسون كتبها في 1787، وهو اقتباس أصبح الآن مثالاً يمينياً متطرفاً: "أعتقد أنّ تمرداً صغيراً بين حين وآخر أمر جيد وضروري في عالم السياسة مثل عواصف عالم الطبيعة، ويجب أن تُنعش شجرة الحرية من وقت لآخر بدماء الوطنيين"، وهو قول لجيفرسون تبنته الميليشيات الحالية.

"قبل 74 سنة، أنجب آباؤنا في هذه القارة أمة جديدة، ولدت في الحرية، وكرست نفسها لفكرة أن جميع البشر خلقوا متساوين. ونحن الآن منخرطون في حرب أهلية كبرى نختبر فيها ما إذا كانت تلك الأمة، أو أي أمة تم تصورها وتفانيها على هذا النحو، قادرة على الصمود لفترة طويلة"، كلمات من خطاب أبراهام لينكولن في جيتيسبرغ عام 1863.

هل تستمر هذه الأمة؟

هذه المقاطع من الخطاب الأكثر شهرة في البلاد لا يمكن وصفها بأنها في غير محلها، والسؤال الذي كان في قلب الخطاب، وتم طرحه أيضاً عند تأسيس البلاد، يُطرح مجدداً: هل يمكن لهذه الأمة أن تستمر لفترة طويلة؟

يبدو أن الظروف غير متوفرة بعد لنزاع مسلح شامل أو حرب أهلية ثانية، ويعود ذلك جزئياً إلى أن الولايات المتحدة راكمت ذاكرة عضلية في التعامل مع حالة الانقسام الدائمة، لكن الظروف غير متوفرة للمصالحة والتقارب، بل إنّ ليس ذلك قريباً البتة.

وعلى هذا، فأميركا تحتل موقعاً غريباً: قريبة من الهاوية، لكنها على بعد خطوة أو خطوتين من الحافة. الذهاب إلى الجحيم دون الوصول أبداً إليه!

وقد عبر المؤرخ الأميركي ريتشارد هوفستاتر، المشهور بتوصيف "نمط جنون الارتياب في السياسة الأمريكية"، عن الأمر جيداً: "يبدو أن الأمة تتجه نحو مستقبلها غير المؤكد مثل وحش ضخم غير مُبين، تصيبه جروح وأمراض فلا يكون منيعاً، لكنه قوي وواسع الحيلة لا يستسلم".

يخلص براينت إلى أن الولايات المتحدة لا تزال عالقة في مأزق إعادة النظر في الحجج نفسها، والذهاب إلى المكان نفسه! لذا، حتى لو لم تنزلق إلى حرب أهلية، فمن الصعب أن نتصور أنها ستصل إلى حالة من السلام المدني. ستستمر الحرب الأبدية: صراع أميركا الذي لا ينتهي مع ذاتها!