الجغرافيا بين غزّة والسويداء
واشنطن لم تضع خطة المساعدات في غزّة لتنقذ الغزيّين، بل لضمان تنفيذ مجزرة المجاعة، وزيارات برّاك المتكررة للمنطقة ليس هدفها التهدئة بل ضمان استمرار الأزمة حتى استنزاف كل قوى المقاومة.
-
الجغرافيا بين غزّة والسويداءالمطلوب المقاومة والمزيد من المقاومة، ودعم كل فكرة أو نشاط مقاوم بكل الوسائل!
لم يكن الهجوم على محافظة السويداء حدثاً مفاجئاً في سياق تعامل سلطة الأمر الواقع في دمشق مع ملف الأقليات الدينية، لكن حجم الجريمة وفظاعتها أثارا الكثير من التساؤلات حول الهدف من استخدام العشائر والعصابات الإرهابية غير الخاضعة لسلطة الجولاني، إضافة إلى قوات الأمن والجيش في هذه المجزرة، ما يشير إلى أن المجزرة بحد ذاتها كانت الهدف، لا السيطرة على المنطقة التي رفضت الخضوع لسلطة دمشق أو حتى تطهيرها مما يسمى فلول النظام السابق.
أهم الأسئلة؛ هل ما حدث هو مجرد مظهر من مظاهر الإجرام التكفيري الإرهابي التي أصبحت معروفة للجميع، أم أن هناك مخططاً مدروساً يتعلق بمحافظة السويداء بالذات؟
إذا تتبعنا التسلسل الزمني للأحداث، نجد مجموعة من المفارقات التي طفت على السطح بسرعة، خصوصاً إذا ما قارنّاها بالمجازر التي حدثت وما زالت مستمرة في منطقة الساحل السوري.
هجوم مباغت من مجموعات إرهابية على محافظة السويداء، والمباشرة بارتكاب مجازر جماعية على قاعدة التطهير الطائفي كما صرّح المهاجمون في فيديوهاتهم، تصدي أهل المنطقة للهجوم بنجاح معقول، رغم ذلك ظهرت أصوات محلية تطالب بحماية دولية، وحماية إسرائيلية بشكل خاص، تحرك قوات الأمن والجيش باتجاه السويداء تحت يافطة فض النزاع بين الطرفين، لتنخرط في المعركة إلى جانب العصابات المسلحة. تدخل العدو الصهيوني بقصف تجمعات المسلحين وقوات الأمن، ووصل إلى دمشق تحت يافطة حماية الدروز. ليأتي اتفاق وقف إطلاق نار هش برعاية أميركية تركية أردنية، ومباركة إسرائيلية.
النتائج: أصبحت منطقة جنوب سوريا من المثلث السوري – الفلسطيني – الأردني وحتى الحدود العراقية تحت الحماية والنفوذ الإسرائيليين، منطقة شرق سوريا من قاعدة التنف وحتى الحدود التركية تحت النفوذ الأميركي، تم إبعاد أي قوات يمكن أن تشكل بؤر مقاومة تؤثر على الطريق التي تصل الكيان الصهيوني بمنطقة كردستان العراقية والحدود الجنوبية لتركيا، وتتعزز الصورة بتخلي حزب العمال الكردستاني عن سلاحه واندماجه في الحياة السياسية التركية.
على الجانب اللبناني تزداد الضغوط على حزب الله لتسليم سلاحه على الأراضي اللبنانية كافة، ويبذل المبعوث الأميركي جهوداً مكثفة تراوح بين الترغيب بالحديث عن سلاح حزب الله بصفته قضية لبنانية داخلية، والترهيب بالتأكيد أن أميركا ليست ضامناً لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، وأنه ليس لديها القدرة أو المصلحة في الضغط على "إسرائيل" للانسحاب من الجنوب اللبناني أو التوقف عن الاعتداءات المتكررة على المناطق اللبنانية لحماية أمنها. تنشط في الوقت نفسه قوى لبنانية معروفة بولائها للولايات المتحدة والعدو الصهيوني، وعدائها لحزب الله، لوضع المزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية على الحزب، لعل أبرزها الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي اللبناني بحق مؤسسة القرض الحسن.
في غزّة تستمر المجزرة، عسكرياً وإنسانياً مع الضغط من خلال قطع المساعدات الغذائية عن القطاع بشكل شبه كامل، واستهداف المواطنين الذين يهرعون إلى مراكز توزيع المساعدات الأميركية، برصاص القناصة وبشكل متعمد. يرتفع عدد ضحايا المجاعة بشكل يومي وأصبح الخطر داهماً بارتفاع عدد الوفيات بشكل كبير خلال أسابيع إذا استمر انقطاع المساعدات، وقد تجاوز الأمر الأطفال ليطال كل سكان القطاع ومن الأعمار كافة. في كلمتها أمام مجلس الأمن الدولي في منتصف تموز 2025، قالت المديرة التنفيذية لمنظمة اليونيسف إنّ الحرب على غزّة حصدت حياة ما معدله 30 طفلاً يومياً، وإن هذا الرقم مرشح للزيادة إلى الضعف أو الضعفين إذا استمرت الحرب والحصار لأسابيع أخرى. كما تحدثت عن مليون طفل فلسطيني يعانون مشاكل تبدأ من نقص الغذاء والمياه الصالحة للشرب والمأوى وحتى العائلات.
في ظل تعامل المقاومة الإيجابي مع مشاريع اتفاقات وقف إطلاق النار، وتأكيدها القبول بعدم المشاركة في إدارة القطاع بعد الوصول إلى اتفاق نهائي لوقف الحرب، نطرح التساؤل مرة أخرى، ما هو مبرر استخدام هذا الحجم المرعب من القوة في القتل والتصميم على المجاعة وبشكل متعمد؟ هل هناك علاقة بين أهداف المجزرة ودعوة محمود عباس إلى إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني بشروط سلطة رام الله؟
دعونا نحاول رسم خريطة المنطقة كما تتصورها القوى الاستعمارية وحلفاؤها في المنطقة. طريق يمتد من شمال فلسطين المحتلة عبر جنوب وشرق سوريا حتى شمال العراق والحدود التركية، يتقاطع مع طريق قادم من شرق الجزيرة العربية يمر شرق الأردن قريباً من الحدود العراقية. طريق آخر قادم من منطقة الخليج (الطريق التجاري الهندي) يصل بواسطة السكك الحديدية إلى شمال غرب المملكة العربية السعودية عبر مدينة نيوم، ويعبر جنوب الأردن ليدخل جنوب فلسطين وصولاً إلى ميناء أسدود.
النتائج: تحييد دور إيران في البحر الأحمر وبحر العرب، وضع المزيد من الضغوط على مصر بصفتها آخر دولة عربية قوية تمتلك إمكانات اقتصادية وعسكرية، السيطرة الكاملة على معظم الطرق التجارية العالمية، تأمين هذه الطرق بالحماية والسيطرة من دون الحاجة للاحتلال المباشر من خلال تصفية جميع قوى المقاومة.
كما قال أحد الإعلاميين "إسرائيل" لم تتدخل في سوريا لحماية الدروز ولكن لحماية مصالحها ونفوذها، وأستطيع القول إن الولايات المتحدة لم تضع خطة المساعدات في غزّة لتنقذ الغزيّين، بل لضمان تنفيذ مجزرة المجاعة لأهدافها، وزيارات برّاك وويتكوف المتكررة للمنطقة ليس هدفها التهدئة بل ضمان استمرار الأزمة حتى استنزاف كل قوى المقاومة في المنطقة.
المهمة ليست سهلة، خاصة في ظل الاستسلام الكامل للنظام الرسمي العربي ومعظم القوى السياسية الملتحقة به حتى المعارضة منها، والتي أصبح الفتات الانتخابي قمة مشروعها النضالي.
المطلوب المقاومة والمزيد من المقاومة، ودعم كل فكرة أو نشاط مقاوم بكل الوسائل، أن نستيقظ كل صباح لنقول ماذا سنقدم للمقاومين. ما دامت فكرة المقاومة مشتعلة في العقول والقلوب لن ينتصروا حتى لو كسبوا جولة أو أكثر، الحرب طويلة والمهم الصمود والإرادة والاستعداد للتضحية.