استغلال "داعش" للأحداث السورية.. واستعدادات واشنطن لاغتنام الفرصة
تسعى واشنطن لاستخدام تهديد تنظيم "داعش" كذريعة لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة، وذلك تحت زعم القضاء على التنظيم، بالإضافة إلى التخفّي وراء شعارات تقديم الدعم العسكري لقوات (قسد) والشركاء الآخرين.
في مساء يوم الجمعة الفائت، أي بعد مرور نحو اثني عشر يوماً على سقوط النظام السوري، أعلنت القيادة المركزية الأميركية توجيه ضربة جوية لتنظيم "داعش" في محافظة دير الزور شرقي سوريا، أسفرت عن مقتل أحد قادة التنظيم، المُسمّى أبا يوسف.
هذا الإعلان يُعدُّ كاشفاً لأمرين، الأول أنّ التنظيم لا يزال نشطاً في أماكن وجوده المعهودة؛ والثاني أن واشنطن تتكئ على أيّ نشاط مرتقب لـ "داعش" لتبرير تدخّلها في سوريا وعموم المنطقة.
الواقع أنه بسقوط نظام الأسد، وما أعقبه من تدخّل "جيش" الاحتلال للتوسّع برياً في جنوب البلاد، مع قصف كامل الترسانة العسكرية للجيش، تكون سوريا بصدد تحوّلات جذرية في الخريطة الأمنية، بالشكل الذي يتيح لأيّ تنظيم خارج عن الأعراف الإنسانية ويتبنّى أجندة ظلامية ويتحرّك وفقاً لخريطة عمل طائفية، مثل تنظيم "داعش" أن يُعيد تنظيم صفوفه ويستغلّ الفراغ الأمني في بعض المناطق، خاصة أنّ ثمة وشائج على مستوى المنهج تجمعه مع الفصائل التي دخلت دمشق قادمة من إدلب يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر، وتدير البلاد من ساعتها.
خلال الأيام الماضية، شهدت البادية السورية تصاعداً في هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية"، مستفيداً من التوترات الناجمة عن التغيّرات الميدانية، فمع غياب السلطة المركزية، أتيحت لـ "داعش" فرص أكبر لإعادة تنظيم صفوفه وشنّ هجمات جديدة، بالشكل الذي يستدعي يقظة مستمرة من القوى المحلية لمنع التنظيم من استغلال الفوضى، في الوقت ذاته يتحتّم على القوى المناوئة للوجود الأميركي في المنطقة تفويت الفرصة على البنتاغون الذي لا يمكنه تفويت فرصة من هذا النوع لتوسيع وجوده في الأراضي السورية.
بحسب ما أعلنته وزارة الدفاع الأميركية، هناك 2000 جندي في سوريا بالفعل، وهو رقم يفوق بكثير الرقم المعلن سابقاً وهو 900 جندي، ويدّعي المتحدّث باسم البنتاغون الجنرال بات رايدر، أنّ الجنود الإضافيين هم بمثابة "قوات مؤقتة أُرسلت لدعم مهمة محاربة داعش، وأنه ليس لديه علم عن الوقت الذي بلغ فيه عدد الجنود هذا الرقم".
وأياً ما كانت دقة تصريحات رايدر، فالواقع أنّ الأميركيين موجودون على الأراضي في سوريا، وعددهم آخذ في الزيادة.
ولا يملك أحد أيّ توقّعات بخصوص نوايا دونالد ترمب للتعامل مع ملف الوجود الأميركي في سوريا بعد "اعتلائه العرش"، لكنّ المعلوم أن الرجل سعى إلى إخراج القوات الأميركية من سوريا خلال فترة رئاسته الأولى، لكنه قوبل برفض المسؤولين داخل إدارته، ورضخ لهم في نهاية المطاف.
كذلك فإنّ سوريا اليوم أصبحت مجالاً خصباً للتدخّلات الخارجية، ولا يمكن للإمبراطورية الأميركية أن تترك تلك "الكعكة الناضجة" لغيرها، خاصة أنّ لدى بايدن ورجاله شعوراً بأنّ الفرصة قد حانت لوراثة دور خصومهم الروس والإيرانيين في سوريا، وهو إنجاز لا يُستهان به، كخاتمة لسيرة الرئيس الأميركي السادس والأربعين.
كيف يمكن أن يُعيد تنظيم "داعش" صفوفه؟
يستفيد تنظيم "داعش" اليوم من الفوضى الحاصلة في سوريا لتعزيز نفوذه والعودة إلى صدارة المشهد من جديد، ولا شكّ أنّ التنظيم يسيطر على مساحات جغرافية داخل البلاد، ويمكن له الوثوب منها لتوسيع مساحة وجوده، فرغم الضربات التي قد تلقّاها التنظيم، والهزائم المتتالية التي مُني بها، إلا أنّ عناصره التي انكفأت في بعض مناطق البادية، واصلت تنفيذ هجماتها مستهدفة بشكل أساسي الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية.
فبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يتخذ مقراً في بريطانيا، فقد قتل تنظيم "داعش" أكثر من 4 آلاف شخص في سوريا منذ خسارته معقله الأخير في البلاد عام 2019.
وخلال الأسبوعين الماضيين، انتهز تنظيم "داعش" حالة التشتّت التي عانى منها جنود وضباط الجيش السوري، ليقوم بإعدام العشرات منهم، وذلك في منطقة السخنة ببادية حمص؛ وعلى ما يبدو فقد منحت أحداث سوريا دفعة معنوية لعناصر التنظيم، بالشكل الذي حرّضهم على رفع علمهم بقرية خالد في محافظة كركوك العراقية، مما دفع قوات الأمن هناك لتطويق القرية والبحث عن المنفّذين، وهذا يؤكد أنّ المخاطر المترتّبة على استعادة التنظيم لقوته لن تؤثّر سلباً على سوريا وحدها، بل ستشمل معها الدول الجارة.
ويسعى تنظيم "داعش" الإرهابي حالياً لتنظيم عناصره والتأثير في مجريات الأحداث السورية، مستغلاً ما يلي:
أولاً: الأسلحة التي استولى عليها نتيجة انهيار الجيش السوري ونهبه لمخازن الأسلحة الخفيفة.
ثانياً: الفراغ الحاصل في السلطة، وضعف مؤسسات الدولة، ووجود عناصر تتصدّر المشهد في دمشق تتبنّى الأفكار السلفية التكفيرية ذاتها.
ثالثاً: انشغال الفصائل المحلية بتأمين مناطقها والتنافس على النفوذ، ما يمثّل فرصة كي يتحرّك تنظيم "داعش" بحرية أكبر.
رابعاً: استغلال الأوضاع على الحدود السورية-العراقية، حيث أنها غير مؤمّنة بشكل كامل، وبالتالي يمكن عبرها نقل المقاتلين والأسلحة.
خامساً: استغلال حالة عدم الاتزان المجتمعي لتجنيد عناصر جديدة، مُروّجاً لنفسه كقوة قادرة على تحقيق الاستقرار في ظل الفوضى.
سادساً: هروب العديد من عناصر التنظيم مع فتح السجون وانفلات الأوضاع الأمنية.
أين يوجد التنظيم في سوريا حالياً؟
1. البادية السورية:
تُعدّ البادية، وهي منطقة صحراوية واسعة تمتد من ريف حمص الشرقي وصولاً إلى الحدود العراقية، من أبرز معاقل التنظيم. وقد استغلّ "داعش" الطبيعة الجغرافية الصعبة للبادية لشنّ هجمات مباغتة على القوات الموجودة هناك.
2. أرياف دير الزور الجنوبية والشرقية:
شهدت هذه المناطق نشاطاً متزايداً للتنظيم، حيث نفّذ عمليات ضدّ "قسد" والقوات الحكومية المنسحبة. وقد أتاح الفراغ الأمني الناتج عن انسحاب القوات الحكومية للتنظيم حرية حركة أكبر.
3. ريف الرقة:
سجّلت تقارير محلية تحرّكات لعناصر "داعش" في بعض مناطق ريف الرقة، مستغلّين التوترات هناك.
4. مناطق حدودية مع العراق:
تُشير التقارير إلى أن التنظيم يسعى لإعادة تشكيل صفوفه في المناطق الصحراوية الممتدة بين سوريا والعراق، مستفيداً من الطبيعة الجغرافية الصعبة وغياب الرقابة الفعّالة.
كيف يمكن أن تستغلّ الإدارة الأميركية تنامي قوة "داعش"؟
تسعى الولايات المتحدة لاستخدام تهديد تنظيم "داعش" كذريعة لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة، وذلك تحت زعم القضاء على التنظيم ومنع تمدّده، بالإضافة إلى التخفّي وراء شعارات تقديم الدعم العسكري واللوجستي لقوات (قسد) والشركاء الآخرين الذين يواجهون "تهديدات من التنظيم السلفي ذاته"، بينما واقع الأمر أن واشنطن تخطط للسيطرة على منابع النفط في سوريا خاصة في شرق وشمال شرق البلاد، ومن المعلوم أن حقول النفط تتركز ضمن محافظات الحسكة ودير الزور وحمص (حوض البادية).
كذلك تخطّط الإدارة الأميركية للاستفادة من الأوضاع عامةً داخل سوريا بهدف تعزيز دورها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وذلك لمنع نشوء نظام جديد في البلاد يتبنّى خيارات معادية لـ "إسرائيل" أو داعمة للمقاومة أو تعمل ضمن سياقٍ دولي راغب في نشوء عالم متعدّد الأقطاب لا تتزعّمه واشنطن وحدها، ومن المؤكّد أن عودة الروح لتنظيم "داعش" تمثّل فرصة ذهبية للبيت الأبيض لاتخاذ قرار بتكثيف الحضور في المنطقة.
ويملك الجيش الأميركي اليوم عدداً من القواعد العسكرية في سوريا، مثل قاعدة حقل العمر النفطي، التي تقع في ريف دير الزور الشرقي، وقاعدة التنف التي تقع في أقصى جنوب شرق محافظة حمص، ضمن منطقة استراتيجية تشرف على طريق حيوي يمتد من طهران إلى دمشق مروراً ببغداد، بالإضافة إلى قواعد أخرى مثل تل بيدر ورميلان والمالكية وتل تمر، وتقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظة الحسكة، وجميعها تأسست في ظروف ضعف الدولة السورية بين عامي 2015 و2021، تحت شعار مراوغ، وهو الحرب على "داعش"، بينما هدفها الفعلي هو ضمان النفوذ والسيطرة على منابع النفط، بالإضافة إلى قطع طرق التواصل الجغرافي بين العراق وسوريا.