اختراقات أمنية كبيرة في الشمال السوريّ: انكشاف "الرجل القويّ"
بعد أشهر من "تطويع" تلك الفصائل وإعادتها إلى الحظيرة التركية تحت وكالة الجولانيّ، يبدو أنّ المسار التركيّ الرامي إلى تهيئة الأرض للمشاريع الإردوغانية الجديدة حول الشمال السوري، قد بلغ الهيئة الوكيلة نفسها.
قبل أشهر من الآن، وتحديداً في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الفائت، وبعد عدة تصريحات متتالية من الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ووزير خارجيّته حينذاك، مولود جاويش أوغلو، بشأن عزم أنقرة الدخول في مسار تسوية العلاقات مع الدولة السورية، خرجت عدّة تظاهرات في مناطق الشمال الواقعة تحت سيطرة الفصائل المسلحة التي ترعاها أنقرة، وجرى إحراق العلم التركي وإطلاق تصريحات تُندّد بالسياسة الإردوغانية الجديدة، وأصدر "الفيلق الثالث" التابع لما يُسمّى بـ"الجيش الوطني السوريّ" الذي خلقته أنقرة من فلول عدة تنظيمات وفصائل في العام 2019، بياناً هدّد فيه بالقتال تحت راية "قسد"، ردّاً على السياسات التركية الرامية إلى تصفية الفيلق وسواه، أو ضمّهم إلى "هيئة تحرير الشام" التي ستكون، برأيهم، الوكيل الوحيد الذي سيعمل على الأرض لتطبيق تفاهمات إردوغان مع الروس حول التسوية مع دمشق. وعلى الفور، استدعى الأمن التركي قادة تلك الفصائل، ووجّه لهم إنذارات واضحة وحازمة، كان أبرز بنودها: منع التواصل مع جهات أجنبية (الولايات المتحدة الأميركية وقوات التحالف) وحصر هذا الأمر بالسلطات التركية.
قبل ذلك مباشرة، كان تنظيم "هيئة تحرير الشام" الإرهابي الذي يتزعّمه أبو محمد الجولاني، قد شنّ هجوماً واسعاً على مناطق في ريف حلب، خصوصاً في منطقة عفرين وجوارها، حيث تتمركز بعض تلك الفصائل، وبدأ ما يُشبه "حرب إلغاء" ضدّها، أسفرت عن سيطرة الهيئة على عدّة بلدات وقرى، وطرد تلك الفصائل منها، وعلى رأسها "الفيلق الثالث" ذاته، ومجموعات من "حركة أحرار الشام"، وسط اتّهامات من الهيئة لقيادات في تلك المجموعات، بالتواصل مع واشنطن ومع قيادة "قوات التحالف الغربي"، في السرّ.
وبعد أشهر من "تطويع" تلك الفصائل وإعادتها إلى الحظيرة التركية تحت وكالة الجولانيّ، يبدو أنّ المسار التركيّ الرامي إلى تهيئة الأرض للمشاريع الإردوغانية الجديدة حول الشمال السوري، قد بلغ الهيئة الوكيلة نفسها، إذ فوجئ الجميع قبل أيام بإقدام الجولاني ورجال أمنه المقرّبين على القيام بحملة اعتقالات واسعة ضمن صفوف الهيئة، وذلك بعد أوامر مباشرة من أنقرة، استندت إلى معلومات لدى الاستخبارات التركية تفيد بوجود خلايا ناشطة داخل الهيئة، تعمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وقد قدّمت السلطات الأمنية التركية لائحة للجولاني، تضمّ أمنيين وناشطين إعلاميين ومسؤولين يعملون على معابر الهيئة، لتقوم أجهزة الجولاني بحملة مداهمات واعتقالات طاولت أكثر من 300 شخص، وسط تكتّم شديد حول مصائر هؤلاء بعد اعتقالهم، الأمر الذي أشاع حالة ذعر شديد وسط عناصر الهيئة وأقربائهم من المدنيين.
وبحسب المعلومات، فإنّ المؤكّد أنّ تقريراً استخباريّاً تركيّاً قد كشف عن وجود الخلية الناشطة التي تتجسّس على القوات التركية لصالح الاستخبارات الأميركية وقوات "التحالف"، وهو ما تمّ إثباته بالفعل عقب التوقيفات مباشرة، إذ وُجد لدى بعض أبرز الموقوفين (وبينهم مسؤول الموارد البشرية في الهيئة، والقائد العام للواء علي بن أبي طالب في الجناح العسكري للهيئة، والمسؤول الأمني عن الكتلة الشرقية في المنطقة الوسطى التي تسيطر عليها الهيئة، ومسؤول بارز في المعابر، وأمير هيئة تحرير الشام السابق في منطقة تفتناز، ومشرف قناة "إدلب بوست" التابعة لإعلام الهيئة) خرائط لمواقع تنظيم "هيئة تحرير الشام" و"حركة أحرار الشام" وعدد من المجموعات والفصائل الصغيرة الأخرى، بالإضافة إلى قوائم بأسماء عدد كبير من الناشطين والمقاتلين الذين ينتظمون في تلك الفصائل، مع تحديد مواقعهم ومسؤولياتهم وجنسياتهم الأصلية، وعرض لآرائهم في بعض المسائل، خصوصاً ما يتعلّق بملف التسوية التركية – السورية، والتعاون التركي – الروسيّ في هذا المسار وفي غيره.
في وقت تسري دعايات إعلامية يروّج لها بعض الناشطين المقرّبين أو المحسوبين على زعيم تنظيم "هيئة تحرير الشام" الإرهابيّ، تتناول معلومات حول القبض على خلايا تعمل لصالح الاستخبارات السورية والروسيّة، والأرجح أنّ أحد أهداف تكثيف هذه الدعاية والتركيز عليها، هو تمكين الجولاني من الذهاب بعيداً في التخلّص من جميع القيادات والأشخاص الذين قد يُشكّلون تهديداً على موقعه ونفوذه الآن أو في المستقبل القريب، تحت عنوان القتال ضد الدولة السورية والقوات الروسيّة ومواجهة من يقبل بالتسوية معهما، خصوصاً أنّ الجولاني لم يتوقف، حتى اللحظة، عن بثّ دعايته التي تعِدُ بـ "تحرير حلب" في القريب العاجل. أيضاً، بات الجولاني بحاجة ماسّة إلى تقوية موقعه وتأمين نفسه ومستقبله وسط الأخطار التي تحيق به من عدة جوانب، فمن جهة، تزداد النقمة الشعبية عليه وعلى أعوانه اللصيقين به، بعد تمكين قبضتهم القاسية على جميع موارد الثروة في المنطقة، واحتكارهم جميع سبل العمل والنشاطات التجارية والاقتصادية عموماً، ما زاد من نسبة الفقر والعطالة بين المواطنين بشكل كبير، وقد بلغ الأمر خروج تظاهرات شبه يومية ضدّ الجولاني وأعوانه في إدلب وريفها، ويعرف "رجل القاعدة" هذا أنّ بيئة شعبية كهذه، قد تُسهّل لقيادات الهيئة أمر الانقلاب عليه بوحيٍ تركيٍّ أو بغيره.
ومن جهة أخرى، يريد الجولاني أنْ يكون الشخص القوي الوحيد الذي لا تجد أنقرة غيره للاعتماد عليه في المرحلة المقبلة، لذلك لن يسمح بوجود أيّ شخصية قيادية قوية أخرى داخل الهيئة أو خارجها، وفي عموم الشمال السوري المحتلّ. أمّا الجانب الآخر الذي يقضّ مضجع الجولاني أيضاً، فيتمثّل في متاهته المُتعِبة مع الأميركيين، فصحيح أنّه يعدّ نفسه رجل تركيا الأول في الشمال، وهذا يُعجبه ويرضيه جدّاً، لكنه يريد قبل كل شيء، شطب اسمه عن "لائحة الإرهاب" الأميركية، ليحوز صفة "الوكيل الدولي" لا التركي فقط، كما يخشى من استهدافه بصاروخ أميركيّ "ضدّ الإرهاب" أو ضد سياسات تركية تُغضب واشنطن وتعيق مشروعاتها في سوريا، في حال وجدت واشنطن أنّ مصلحتها وسط الظروف والتطورات الجديدة تقتضي تصفيته لصالح تصعيد شخصية جديدة أكثر نفعاً منه.
وهذا يُفسّر كثافة الدعاية التي تتحدّث عن القبض على المئات من "عملاء الدولة السورية والروس وحزب الله" واختراع سرديات تتحدث عن تخطيط هؤلاء للقيام بأعمال أمنية وتفجيرات، وعدم الإسهاب في أيّ حديث عن "جواسيس واشنطن" داخل الهيئة أو حولها، ويدرك الجولاني من هذه الناحية، أنّ استمرار الإعلان عن عدائه الجذريّ للدولة السورية وحلفائها، هو أبسط الضرر، خصوصاً مع علمه الأكيد، أنّ قبول دمشق به وبوجوده في الشمال تحت أي ظرفٍ أو وفقاً لأيّ تسوية، هو أمر مستحيل الحدوث. لكنّ صدمة الجولاني الرهيبة أمام ما كشفته الأحداث الأخيرة المتعلقة بهذا الملف، هو ما زاد من حجم تلك الدعاية الموجّهة في اتّجاه واحد.
فقد بات مؤكّداً أنّ اختراقات كبيرة جدّاً وشديدة التأثير، قد حدثت داخل الجسم الأمني والعسكري والإعلامي لهيئة الجولاني الإرهابية لحساب الدولة السورية، والمؤكّد أيضاً، بحسب المعلومات، أنّ أجهزة الأمن السورية باتت تعرف تفاصيل عن مقاتلي الهيئة ومواقعهم وأسلحتهم وتحرّكاتهم وخططهم، أكثر مما يعرفه الجولاني نفسه، وقد ثبت هذا بعد اعتقال المسؤول المباشر عن كاميرات المراقبة وخطوط الإنترنت على خطوط التماس مع الجيش العربيّ السوريّ، ومسؤول الدراسات الأمنية للهيئة في المنطقة الوسطى ومنطقة سرمدا، ومسؤول التنسيق في الإعلام العسكري للهيئة، وقيادات عسكرية وميدانية وإعلامية وسياسية بارزة أخرى (أحدهم يعمل في مكتب رئيس ما يُسمّى بحكومة الإنقاذ).
كلّ هذا كان كفيلاً بدبّ الذعر في قلب الجولاني، فقد اكتشف فجأة أنّ كلّ تلك الهالة التي أحاط نفسه بها، ومنها "فائض القوة" الذي كان يشعر به حيال الفصائل الأخرى، وثقته بقدرته الكبيرة على التهديد في اتّجاه حلب وسواها، وخططه الواثقة بالتفرّد كوكيل حصريّ لا يمكن الاستغناء عنه لدى أنقرة، وفي الوقت ذاته: الوكيل الأكثر إغراءً لواشنطن وقوى الاحتلال الغربي في الشرق، كلّ ذلك كان وهماً، فالرجل "الواثق الخطير والمهم" كان وما يزال مكشوفاً تماماً ومرصوداً في كل تحرّكاته.
وهذا يكشف الكثير ممّا يتعلّق بمستقبل الشمال وآفاق الخطط والتسويات الجارية حوله، وعلى العكس تماماً ممّا كان الجولاني يعتقد، فإنّ هذه الأحداث قد أثبتت له، قبل غيره، أنّ أمر الانتهاء منه ومن جماعته حين تدقّ ساعة التوافق السياسيّ والعسكريّ على حلّ نهائيّ، سيكون أسهل بكثير مما فكّر فيه الرجل، أمّا أحجار "الدومينو" العسكرية والمدنية المحيطة به، فالواضح أنّ العديد منها قد تدحرج نحو موقعه المفترض الذي يوافق المرحلة القادمة، واتّخذ موقعه فيه منذ الآن. والمرجّح أيضاً، أنّ ما لم يكتشفه الجولاني بعد حملة الاعتقالات الأخيرة أصعب وأفظع بكثير ممّا عرفه خلال التحقيقات، ولعلّه بات يدرك ذلك جيّداً.