إيران إذ تراجع عقيدتها النووية... كيف يمكن إبطال "سلاح يوم القيامة" الإسرائيلي؟

ما دام العالم برمته تواطأ مع فكرة التفرد الإسرائيلي بالقنبلة القذرة، فإن على دول الإقليم أن تأخذ زمام قرارها بنفسها، وأن تحصن أمن الإقليم وسلامته، بمخالب وأنياب نووية.

  • العقيدة النووية الإيرانية تستند إلى
    العقيدة النووية الإيرانية تستند إلى "فتوى" الإمام خامنئي، العائدة إلى عام 2003.

في طهران، ثمة ورشة مراجعة للعقيدة النووية الإيرانية المعمول بها منذ أكثر من عشرين عاماً، أتيح لكاتب هذه السطور أن يشهد بعضاً من فصولها على هامش النسخة الثالثة من الحوار العربي – الإيراني، بحيث توافرت فرصة الاستماع إلى كلمات ومداخلات أدلى بها الوزير حسين أمير عبد اللهيان قبل أيام من رحيله المفجع، والدكتور كمال خرازي والدكتور عباس عرقجي، كبير المفاوضين الأسبق في الملف النووي الإيراني.

وفي "تل أبيب"، ثمة موجة تلويح (اقرأ تهديد) هستيرية باستخدام النووي و"سلاح يوم القيامة" ضد غزة ولبنان وإيران، تردد صداها في جنبات الكونغرس (ليندسي غراهام) وبعض الأوساط الصقرية – المتصهينة في مؤسسات صنع القرار الأميركي، الأمر الذي يطرح بقوة خطر التهديد النووي في منطقة الشرق الأوسط، للمرة الثانية في خمسة عقود. المرة الأولى كانت عندما أطلّ شبح الهزيمة على سماء "إسرائيل" في أول أيام العبور وحرب تشرين، وقبل الانخراط الأميركي المباشر في هذه الحرب، إذ كشفت الوثائق أن رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك، غولدا مائير، فكّرت في استخدام "ذلك الشيء في ديمونا" لضرب مصر وسوريا.

العقيدة النووية الإيرانية تستند إلى "فتوى" الإمام خامنئي، العائدة إلى عام 2003، وقضت بتحريم امتلاك القنبلة النووية وتجريمها، وباستخدامها. ومنذ ذلك الحين، تحوّل التحريم الديني إلى تحريم سياسي، احتل موقع القلب في "العقيدة النووية الإيرانية"، الأمر الذي قابلته أوساط غربية وعربية، بكثير من الشك والتشكيك، ورأت إليه بصفته ضرباً من "الخداع الاستراتيجي".

لكن التقارير الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة النووية، وبعض التقارير المهنية التي كانت تصدر في واشنطن والغرب، أكدت، أكثر من مرة، براءة البرنامج النووي من بعده العسكري.

النقاشات في المؤتمر المذكور، وعلى هامشه، ظهّرت جوانب أعمق وأشمل من هذه "العقيدة"، وبات في الإمكان تلخيصها في "لاءين" اثنتين و"نعم" واحدة: لا لعسكرة للبرنامج النووي المصمَّم لأغراض سلمية؛ لا لمحاولات حرمان إيران من التوظيف الكامل لبرنامجها النووي لأغراض سلمية، بما في ذلك حقها في امتلاك دورة تخصيب كاملة لليورانيوم على أرضها وتحت سيادتها؛ نعم لشرق أوسط خالِ من أسلحة الدمار الشامل، وبالذات النووية منها.

لسنا ندري هل انتهت مراجعة إيران لعقيدتها النووية، وكيف، وإلى ماذا خلصت ورشة العصف التي تنخرط فيها مؤسسات سياسية وأكاديمية ومراكز صنع القرار. البعض قال إن كبار المسؤولين الإيرانيين ما كانوا ليفتحوا ملف المراجعة معناً وفي العلن، لولا أنهم أتمّوها في دوائر مغلقة، وإن ما يثار اليوم من نقاشات على الملأ بشأن هذا الموضوع، إنما يندرج في سياق "التهيئة" لما سيُكشف عنه في المقبل من الأيام، وربما بعد وقت ليس بعيداً. وفي مطلق الأحوال، لا أحد ظنّ أو يظن أن إيران كانت لتبوح لنا بأسرارها، لو أنها قررت استحداث التغيير الاستراتيجي في عقيدتها النووية.

وتشي مناقشات الزملاء الإيرانيين، وتصريحات كبار السياسيين والمختصين، بوجود إحساس عميق، بإخفاق العقيدة النووية – قيد المراجعة – في تحقيق أهدافها ومراميها.

فالشرق الأوسط ما زال يتميز بوجود قطب واحد، يحتكر السلاح النووي، ويعرضه للاستخدام بعد أن ظل عقوداً محكوماً بعقيدة "الغموض النووي"، ولاسيما مع صعود الفاشية والتطرف في "إسرائيل"، دينياً وقومياً، ثم إن "سلمية" البرنامج النووي الإيراني، المثبتة في تقارير الوكالة الدولية، لم تُفلح في تفكيك أطواق العقوبات والحصار المفروضة على إيران، بل إن واشنطن وحلفاءها ما انفكوا يفرضون مزيداً من هذه العقوبات عند كل منعطف تمر فيه إيران والإقليم.

والأخطر من كل هذا وذاك، أن "إسرائيل"، وفي الغالب بضوء أخضر أميركي، ما انفكت تهاجم العلماء النوويين الإيرانيين والمنشآت النووية الإيرانية، عبر وسائل استخبارية وسيبرانية، وتلوّح دوماً بما هو أبعد من ذلك، وتسعى لاستجرار الولايات المتحدة، لتوجيه ضربات عسكرية مكثفة إلى المواقع النووية في عمق إيران. الخطر ما زال جاثماً، والتهديد سيظل قائماً ما لم تتكرس معادلة الردع الإقليمي المتبادل، بحسابات الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل، سواء بسواء.

في الرد الإسرائيلي على "صفعة الرابع عشر من نيسان"، وموجة الصواريخ والمسيّرات الإيرانية التي استهدفت "إسرائيل" لأول مرة منذ انتصار الثورة الاسلامية، حرصت "تل أبيب" على بعث رسائلها المفضوحة وغير المشفرة إلى طهران، عندما وجهت بعضاً من صواريخها إلى مواقع قريبة من منشآت نووية إيرانية حساسة. إيران فهمت معزى الرسالة، واستذكرت، وهي التي لم يغب عن بالها، استهداف "إسرائيل" مفاعل تموز النووي العراقي في عام 1981، ولا الضربات الإسرائيلية المتكررة لما قيل إنها منشآت نووية سورية، في دير الزور عام 2007، أو في غيرها.

القيادة الإيرانية تعهّدت، سراً وعلانية، استهداف المنشآت النووية الإسرائيلية، إن تعرضت منشآتها للاستهداف، وسبق لها أن وجهت رسائل بالنار إلى "تل أبيب"، عندما حطت صواريخها في تلك الليلة على مقربة من منشآت إسرائيلية استراتيجية ونووية حساسة. وإيران تصنف نفسها اليوم على أنها "دولة عتبة نووية"، بمعنى أن المسافة التي تفصلها عن "القنبلة" لا تزيد على المسافة التي يحتاج إليها اتخاذ القرار بذلك. هذا تطور مهم ونوعي في العقيدة النووية الإيرانية، على أن السؤال، الذي يبقى ماثلاً: هل يكفي ذلك لردع إسرائيل وواشنطن عن ممارسة أي فعل أحمق، أم أنه سيحفزهما على استعجال توجيه ضربة استباقية تحيل "العتبة" على مخرج لإيران من النادي النووي بدلاً من أن تكون مدخلها له؟

في ظني، وليس كل الظن إثم، أن نافذة الفرصة المتاحة أمام إيران لمراجعة عقيدتها النووية، قد لا تظل مفتوحة طويلاً، ولاسيما إن عاد ترامب إلى البيت الأبيض بخطابه المعادي لإيران وحلفه غير المقدس مع اليمين في الفاشي في "إسرائيل" والعالم. وأحسب أن الفترة الفاصلة بين الانتخابات الرئاسية الأميركية والعشرين من يناير المقبل، موعد تولي الرئيس سلطاته الدستورية، ربما تكون الفترة الأمثل لاجتياز العتبة إلى عضوية النادي، وتذكّروا جيداً أن جُلّ ما ابتغاه ترامب المتغطرس هو مصافحة "رجل الصواريخ القصير" في كوريا الشمالية، على أرضه، حتى إن كان مكان اللقاء محطة على بعدة أمتار عن الحدود مع الشطر الجنوبي، والحكاية ليست في حاجة لشرح أو تفسير.

من أسفٍ، أن كثرة من الدول العربية والإقليمية الوازنة لم يثر قلقها تفرُّد إسرائيل بامتلاك ترسانة من الأسلحة والرؤوس النووية، وصبت جام غضبها وتركيزها، بدلاً من ذلك، على برنامج إيران النووي الوليد، ولم يزعجها أبداً فشل محاولاتها المتكررة على مدى خمسين عاماً، لتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، بل كانت الأكثر نشاطاً في مقاومة محاولات دول عربية للحصول على هذا السلاح أو غيره (العراق، ليبيا وسوريا).

واليوم، ينصبّ اهتمامها على مواجهة "التهديد النووي الإيراني"، ولا أدري ما هو سر طمأنينة هذه الحكومات، ولاسيما بعد اشتداد حمى التطرف والوحشية الفاشية في "إسرائيل"، وسقوط الأقنعة عن وجه واشنطن وعواصم غربية متعددة في سياقات الحرب الهمجية على البشر والشجر والحجر في قطاع غزة، وهل الرهان الأخبل على العلاقة "الخاصة والمتميزة" بالولايات المتحدة والقيادة الوسطي والناتو كفيل بحفظ أمن الأمن القومي العربي، وأمن الأوطان والبلدان العربية واستقرارها؟ ولا أدري، كذلك، إن كانت "المظلة الأطلسية" كافية لحفظ الأمن القومي التركي، ولاسيما بعد أن تبدّى، في الأعوام القليلة الفائتة، أن مشاريع استهداف تركيا وتقسيمها لم تُسحب من التداول الاستعماري بعدُ، أقله هكذا ظلّ تردد إردوغان وأركان حزبه وحكومته؟

بالضد من تجربة إيران مع برنامجها النووي (صُنع في إيران)، فإننا لم نر سوى محاولات عربية وتركية خجولة ومترددة لامتلاك برامج نووية لأغراض سلمية، خلت جميعها حتى الآن، على الأقل، من حق هذه الدول في امتلاك دورة تخصيب كاملة في أرضها وتحت سيادتها، مع أن بعضها يتوافر على الإمكانات والموارد الطبيعية والمالية والبشرية للحصول على ذلك. ويكشف الثمن، الذي يراد تدفيعه للسعودية نظير قيامها بـ"التخصيب" في أرضها، والقيود الاستثنائية المفروضة عليها نظير ذلك، بما فيها التطبيع الكامل مع "إسرائيل"، عن تهديد لسيادة هذه الدول واستقلالها، وأمنها الوطني.

والخلاصة أن لا حل لمعضلة الانفراد الإسرائيلي بالسلاح النووي إلا بإقدام حفنة من الدول الوازنة في الإقليم، على امتلاكه، وخلق معادلة ردع نووي إقليمي متبادل، وإرغام "تل أبيب"، تحت سيف التهديد بـ"اليوم التالي" لأي حماقة نووية، على التسليم ببؤس نظرية تفوقها على دول المنطقة مجتمعة.

وما دام العالم برمته تواطأ مع فكرة التفرد الإسرائيلي بالقنبلة القذرة، فإن على دول الإقليم أن تأخذ زمام قرارها بنفسها، وأن تحصن أمن الإقليم وسلامته، بمخالب وأنياب نووية.

فالسلاح النووي، منذ أن ظهر، لم يُستخدم إلا عندما كانت الولايات المتحدة تتفرد بامتلاكه، ولم تبتعد الدول الكبرى عن حافة هاوية الحروب المباشرة بين بعضها البعض، إلا بعد أن توزع هذا السلاح على العواصم التي أدركت أنها وصلت إلى حدّ "الإفناء الذاتي".

والنظام العالمي، بطبعاته المتتالية بعد الحرب العالمية الثانية، نهض على ركيزة توازن الردع النووي المتبادل. والنظام الإقليمي الشرق أوسطي لن يستقيم أو يتوازن إلا إذا أقدمت دوله الوازنة، جميعها أو بعضها: إيران، تركيا، مصر والسعودية على سبيل المثال، على امتلاك هذا السلاح، ولاسيما بعد السقوط المدوي للنظام العالمي والمجتمع الدولي والشرائع الإنسانية والأممية ولمنظومات القيم والأخلاق، في امتحان غزة.