أفكار على هامش "المنازلة الكبرى"
ما لم تُكسر ذراع "إسرائيل" التي عاثت قتلاً واغتيالاً في قلب إيران، فإنّ عدوى الشهية المنفتحة لنتنياهو على توسيع أهداف الحرب، ستنتقل إلى ترامب، وربما تصيب العدوى قادة أوروبيين، في لندن وباريس وبرلين كذلك.
-
الحرب على إيران سترسّم خرائط الإقليم والقوى ومعادلاتها وتوازناتها.
ما الذي كنّا نظنه، وما الذي بتنا نعرفه، بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية على إيران؟
أولاً؛ "خداع استراتيجي"
صدّقنا لبعض الوقت، أنّ ترامب وإدارته، جادّان في سعيهما لإبرام اتفاق نووي جديد مع إيران، وانطلت علينا "حكاية" أنّ الرئيس الأميركي "المحبّ للسلام وجائزة نوبل"، إنما يجهد في كبح جماح نتنياهو وحكومة اليمين الفاشي، وتأثّرنا من دون شكّ، بطوفان "التسريبات" في أرقى صحف العالم ووسائل إعلامه، عن المحادثات الهاتفية "الصعبة" بين الرجلين، سيما آخر مكالمتين، وتسرّب اليقين إلينا بأنّ الحرب المرجّحة، لن تكون "وشيكة"، تماماً مثلما قال ترامب نفسه، عشية الثالث عشر من حزيران/يونيو، انتظرنا وقوعها بعد الأحد (الخامس عشر منه)، وفي حال انسداد الأفق التفاوضي فقط.
كلّ تلك الفرضيات انهارت دفعة واحدة، وثبت على نحو قاطع، أننا كنّا بإزاء أكبر لعبة "خداع استراتيجي" هدفها "طمأنة" إيران و"تخديرها"، حتى تقع الضربة الإسرائيلية على رأسها، وقع الصاعقة... لم نتفاجأ بأكاذيب نتنياهو ولا بالموعد "الزائف" لزفاف نجله الأصغر، الذي كان من ضمن لعبة التمويه والخداع، المفاجأة جاءتنا من رئيس أكبر دولة، الذي انخرط في لعبة الكذب والتضليل والخداع، فقدّم مثالاً بائساً لرئيس لا يقيم وزناً لسمعته وصدقيّته وهيبة بلاده، رئيس ارتضى على نفسه دور "كومبارس" في مسرحية الخداع التي كتبها وأخرجها بنيامين نتنياهو.
قد نكون خجلنا (كأفراد) من فرط سذاجتنا، أو بالأحرى، من تعلّقنا بقواعد الحد الأدنى في العمل السياسي والدبلوماسي، لكنّ الطامّة الكبرى، حلّت بنا وبغيرنا، حين رأينا إيران تقع في أحابيل المكيدة، وتبتلع الطعم، وتتعرّض لـ "نكسة حزيرانية"، تذكّرنا بحدث حزيراني مشؤوم في تاريخنا العربي المعاصر... صحيح أنّ "النكستين الحزيرانيتين" لم تنجحا في إسقاط نظام عبد الناصر في مصر أو نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، بيد أنّ التاريخ بعدهما، غيّر مساره بحدة، ولم يعد يشبه التاريخ قبلهما.
ثانياً؛ "اختراق استراتيجي"
على مبعدة أشهر معدودات، من أكبر عمليات "الخرق الاستخباري الاستراتيجي" التي نفّذتها الأجهزة الإسرائيلية ضدّ حزب الله في لبنان، ليس بدءاً بـ "البيجر"، ولا انتهاء بالوصول إلى الأمين العامّ للحزب وخليفته، يبدو أنّ "إسرائيل" نجحت مجدّداً في تسجيل خرق أكبر، وفي العمق المؤسسي الإيراني... نجحت في قطع رأس المؤسستين الأمنية ـــــ العسكرية والعلمية بضربة واحدة، وأحياناً في داخل "غرف نوم" القادة والعلماء...
هذا تطوّر لا يجوز بحال التقليل من شأنه، من خلال الحديث عن النجاح السريع في "ملء الشواغر" وسدّ الفراغات في سلسلة القيادة والتحكّم، ولا يمكن تفسيره فقط بعامل التفوّق التكنولوجي الإسرائيلي على أهميته.... هذه ثغرة كبرى في جدران الصدّ الإيرانية، وما كان لبلدٍ سبق وأن تعرّض لسلسلة طويلة وعريضة، من عمليات الخرق والاختراق، أن يجابه وضعاً مماثلاً، والمسألة برمّتها، ربما تستدعي "ثورة في الثورة"، فالنجاحات في كشف "متورّط" هنا، وخلية هناك، لا ينبغي أن تحجب الرؤية عن "اختراق استراتيجي" كاد أن يزلزل أركان الدولة والنظام.
ثالثاً؛ في تقييم أول يومين من الحرب
تماسكت إيران مثلما تماسك حزب الله، وتعافت مبكراً مثلما تعافى الحزب على نحو سريع ومُقدّر... وحسناً فعلت طهران، إذ لم يتأخّر ردّها على العدوان، زخات الصواريخ والمسيّرات التي هطلت على "تل أبيب" والمدن الإسرائيلية، أعادت لإيران بعضاً من أنفاسها.
لكن في تقييم موضوعي للمجابهة، يمكن القول إن الردّ الإيراني، لم يتناسب بعد (وأشدّد على بعد، فلا ندري ما الذي ستأتي به مقبلات الأيام) مع الهجمات الصاعقة التي شنّتها (وتشنّها) "إسرائيل" ضد أهداف إيرانية استراتيجية... لو توقّفت الحرب في هذه اللحظة، فإنّ حصادها ليس لصالح إيران أبداً، ولن تعود ذلك البلد "مهاب الجانب".
نتنياهو يريد أن يجعل من طهران "خان يونس 2"، يأمر السكان بالإخلاء، فيخلون إلى ملاذات غير آمنة، هو لا يريد اتفاقاً نووياً جديداً مع إيران، حتى وإن جاء بشروط ترامب (ربما الأخير يرغب بذلك، ولكن ليس نتنياهو)، لذلك يتعيّن الحذر من تضخيم حجم المنجز العسكري الإيراني في هذه اللحظة، فهو على أهميته، ليس كافياً لاستعادة التوازن، دع عنك حكاية بناء "ميزان ردع جديد".
إن لم ترفع طهران منسوب ضرباتها العسكرية لـ "إسرائيل"، كمّاً ونوعاً، فليس مستبعداً أبداً، أن تتعامل معها "تل أبيب" كما تتعامل مع لبنان بعد اتفاق 27 تشرين الثاني/نوفمبر، لا اتفاقات تردع نتنياهو واليمين الفاشي، فما بالك إن كان غير راغبٍ بالاتفاق أصلاً... قبل الجلوس إلى أيّ موائد للتفاوض، لا بدّ (لأجل هيبة إيران ومصلحتها)، من إعادة ترميم "التوزان والردع"، بخلاف ذلك، فإنّ الاستباحة الإسرائيلية للمشرق العربي وشرق المتوسط، ستطاول ضفاف قزوين.
رابعاً؛ حتى لا نلدغ من الجحر الواحد مرات ومرات
يروّج الآن، أنّ ترامب ونتنياهو لا يقرآن من الكتاب ذاته، وأنّ الأول يسعى لاتفاق مع طهران بشروطه، أي صكّ إذعان واتفاق استسلام في جوهره، وأنّ نتنياهو يريد الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى إسقاط النظام، وأنه بدأ لهذه الغاية تحضيراته لـ "اليوم التالي" لنظام الجمهورية الإسلامية، وأنه يجري اتصالاته مع بقايا العهد الملكي البائد وجماعات "مجاهدي خلق" وبعض مجاميع المعارضة الإيرانية، للاستعداد لتخليق البديل، الذي يأمل أن يكون أكثر "جدّية" من تجربته مع "ياسر أبو شباب" في غزة.
قد يبدو الأمر نكتة سمجة، في إيران كما في غزة، ولكنّ تجربة العامين الفائتين تعلّمنا أن نأخذ على محمل الجدّ، حتى أكثر النكات سماجة، فمن كان يتوقّع أن يحتفي "المجتمع الدولي" بأحمد الشرع وهيئة تحرير الشام، وأن ينقلب المشهد في سوريا رأساً على عقب في غضون أيام قلائل... مع الاحترام لكلّ من يقول بالفارق بين التجربتين والسياقين، ثمة أمور لا مطرح فيها للهزل والاسترخاء والنوم على حرير الأوهام والرهانات الخائبة.
قد يكون التقدير عن اختلاف بين موقف ترامب ونتنياهو حول المآلات الأخيرة لهذه الحرب، صحيحاً، وقد لا يكون... لا يتعيّن الوقوع في براثن "لعبة خداع استراتيجي" ثانية، فيما إيران لم تدفن شهداءها بعد.... ثم، من قال إن ترامب لن يغيّر وجهة نظره، إن هو أحسّ أو اقتنع، بأنّ ما يقوله نتنياهو، ويحرّضه عليه، إنما يتوفّر على فرصة جدّية للنفاذ والتحقّق... من قال إن ترامب لن يلتحق بركب نتنياهو، وقد يسبقه، إن شعر للحظة، أنّ فرصة تغيير النظام في طهران، هي فرصة جدية... قد نصدّق الرجل بأنه يريد "تغيير السياسات" الإيرانية، ولكن إن لاحت فرصة "تغيير النظام"، فهل سيتوقّف أمامها متفرّجاً؟
الحرب في بداياتها، وهي قد تُطلق ديناميات محلية في إيران و"إسرائيل" بالأخص، التي لا يمكن التنبّؤ بصيرورتها من الآن، وما لم تُكسر ذراع "إسرائيل" التي عاثت قتلاً واغتيالاً وتدميراً في قلب إيران (ورأسها)، فإنّ عدوى الشهية المنفتحة لنتنياهو على توسيع أهداف الحرب، ستنتقل إلى ترامب، وربما تصيب العدوى قادة أوروبيين متحفّزين، في لندن وباريس وبرلين كذلك.
في هذا السياق، من السذاجة، التعويل على "حليف استراتيجي" في موسكو، وآخر في بكين، هم بلا شكّ أصدقاء لإيران، يتعاونون معها ويبرمون الاتفاقات طويلة الأمد، ولكن تجربة إيران وحلفائها مع "الصديق الصدوق في موسكو"، لا تبعث على التفاؤل والرهان... أما بكين، فما زالت أسيرة "أدواتها الناعمة" في إدارة سياستها الخارجية ودبلوماسيتها الكونية.
خامساً؛ في حديث الساحات ووحدتها
يدور جدل حول عمّا إذا كانت الحرب الإيرانية ـــــ الإسرائيلية ستتحوّل إلى "إقليمية"، إن هي استمرت وتطوّرت... مثل هذا الجدل يستدعي جدلاً سابقاً حول ما إذا كانت أطراف "المحور" قد أخطأت أم أصابت حين فتحت ساحات الإسناد على نحو متدرّج وغير متزامن، وما إذا كان من الأصوب فتحها دفعة واحدة، وبأقصى قوة، أقلّ لضمان صفقة شاملة أكثر أنصافاً وتوازناً، وحتى لا تنفرد "إسرائيل" بهذه الجبهات، الواحدة تلو الأخرى، وعمّا إذا كانت طهران قد اتخذت الموقف الصائب في مختلف محطات الحرب المتلاحقة منذ السابع من أكتوبر، أم أنه كان يتعيّن عليها التصرّف على نحو مغاير.
اليوم، تبدو جبهات المقاومة والإسناد في وضع لا تحسد عليه... حماس بالكاد تقاوم فوق مساحات متناقصة من قطاع غزة... وحزب الله ما زال يرمّم ما هدّمته حرب الإسناد وأولي البأس، وهي يواجه ضغوطاً تنوء بها الجبال، وفصائل المقاومة العراقية، بين مطرقة الاحتلال الأميركي وسندان حكومة ورأي عامّ، لا يريدان التورّط في "حرب ليست حربهم"... وحده اليمن، لديها بقية من نفس، وإن كان في بؤرة "المهداف" الإسرائيلي، وقبلها الأميركي ـــــ الأطلسي.
إن احتاجت طهران أطراف "المحور"، فقد لا تجدهم، أو لا تجد منهم الفاعلية التي تتوخاها، والأطراف من قبل ومن بعد، بحاجة للتيّقن من أنها مقبلة على "منازلة كبرى" تستحق المقامرة، وقلب الطاولة على رؤوس اللاعبين الآخرين، محليّين أو خارجيّين، أم أنها بإزاء "مناورة" قد تنتهي بأسرع مما يظنون إلى "تهدئة" أو "تسوية" تخصّ إيران وحدها، ثم يتركون لمواجهة أوضاع أكثر صعوبة وتحدّياً؟
سادساً؛ في العقيدة النووية
كنا كتبنا على صفحات هذا الموقع (الميادين نت)، بأنّ على إيران أن تخرج عن تردّدها في مسألة "القنبلة"، متشجّعين بأفكار عرضت على الدورة الثالثة للحوار العربي ـــــ الإيراني، يومها كشف عرقتشي والراحل أمير عبد اللهيان، عن مراجعة تجريها طهران لعقيدتها النووية التي تحرّم تصنيع القنبلة وامتلاكها.
نستذكر هذا الحوار اليوم، فلا "إسرائيل" كان لها أن تعربد، ولا واشنطن أن تضغط وتبتزّ، لو أنّ إيران قطعت العتبة الأخيرة صوب "النادي النووي"، وإذ بدا لنا أنّ الإيرانيين ما كانوا ليطرحوا على جدول أعمال الحوار فكرة المراجعة، لولا أنهم قد حسموا أمرهم، فإنه سيتبيّن لاحقاً أنّ "التردّد" ما زال سيّد الموقف، سيما بعد أن لاحت في الأفق بوادر عودة ترامب للبيت الأبيض، المدجج بالهراوة ووعود الجحيم من جهة، والمواقف الحمائمية التي تغازل "الأمة الإيرانية العظمية" من جهة ثانية.
الشرق الأوسط، إما أن يكون خالياً من السلاح النووي، أو أن يتجه نحو "تعددية قطبية نووية"، تنخرط فيها إلى جانب "إسرائيل" (المدججة نووياً)، كلّ من إيران والسعودية ومصر وتركيا... هنا يمكن للحروب الكبرى أن تتوقّف وتتعذّر، ولولا عضوية كلّ من الهند والباكستان في هذا النووي، لكان البلدان قد دخلا أكثر من مرة في حروب شاملة... الردع المتبادل هو الوسيلة لكبح جماح كيان متوحّش، مدعوم بالمطلق، من قبل أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم... بخلاف ذلك، فإنّ الرهان على القانون والمجتمع الدوليين والوكالة الدولية والدبلوماسية و"فن التفاوض" أو "المفاوضات حياة"، هو رهان قصير الأمد والنظر.
سابعاً؛ أين من هنا؟
الحرب في بواكيرها، نتنياهو يتطلّع لتغيير النظام، وهو يعتقد أن لا مأمن لـ "إسرائيل" من برنامج إيران النووي طالما ظلّ النظام قائماً... ترامب لا يمانع في الوصول إلى هذا الهدف، ولكنه يقبل بأقلّ منه: اتفاق نووي مذلّ لطهران ونظامها، سيفضي وإن بعد حين، إلى نزع الصدقيّة والشرعية عن النظام... إيران تريد اتفاقاً، يحفظ لها حقوقها في امتلاك برنامج متكامل، وتخصيب على أرضها، وهي نظير ذلك، مستعدّة للذهاب بعيداً في تقديم الضمانات والتطمينات، والقبول بإجراءات التحقّق والتفتيش والرقابة.
الفجوة الواسعة في مواقف الأفرقاء، تشي بأنّ الحرب قد تستمر لأكثر من مجرّد "بضعة أيام"... النصر المطلق لنتنياهو بإسقاط النظام، والنصر المطلق لإيران باتفاق يكفل حقوقها... وبين النصرين، يقف ترامب، ويقلب خياراته، وتقترب واشنطن من اتخاذ أهم قرارٍ لها في ربع القرن الأخير: إما أن تنضمّ لنتنياهو في حرب إبادة لمشروع إيران النووي والصاروخي وعناصر القوة والاقتدار للدولة والنظام، وهو سيناريو لا يمكن إسقاطه من الحسبان... وإما أن يدخل في لعبة عرض عضلات مع الحكومة الإسرائيلية، تكبح جماحها، نظير تنازلات مهمة من الجانب الإيراني.
في وضعيّة كهذه، لا بأس من استمرار الحديث عن الدبلوماسية والحلّ السياسي، وتجريب أيّ فرص وممكنات على هذا الطريق، لكنّ الخيار الأسلم هو التعامل مع "السيناريو الأسوأ"، الذي لم يعد سراً خبيئاً أبداً، فقد باح به نتنياهو وأركان حكومته، وتوافقت عليه السلطة والمعارضة في "تل أبيب"، وتدعمه مؤسسات وشخصيات وازنة في إدارة ترامب ومن خارجها.
الحرب على إيران لن ترسم مصير هذا البلد الكبير فحسب، بل وسترسّم خرائط الإقليم والقوى ومعادلاتها وتوازناتها، ربما لخمسين سنة مقبلة... ولن تقتصر عملية الرسم والترسيم على خصوم واشنطن والمقاومين لهيمنة "تل أبيب"، بل ستطاول عرب الاعتدال وأنظمتهم وبلدانهم فلا صديق لـ "إسرائيل" سوى "إسرائيل" ذاتها، ولا صديق لواشنطن في المنطقة، سوى "تل أبيب".