دول الخليج المُهدّدة

في غمرة الحملات العسكرية والإعلامية بين الدولة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، تبدو دول الخليج في حيرةٍ من أمرها.

حكّام دول الخليج خاسرون في كل الأحوال

استفسار سياسي مفروض على أيّ باحثٍ أو سياسي أو مُتأمّل، وهو يتعلّق بمستقبل دول الخليج، إذا حدثت مواجهة عسكرية بين "الولايات المتحدة الأميركية" و"الجمهورية الإسلامية الإيرانية"، وكذلك المستقبل الخليجي إذا لم تحدث مواجهة عسكرية، ونقصد بالمستقبل الذي ينتظر دول الخليج، ليس فقط خَلْع ملك أو إسقاط أمير، الأمر أخطر من ذلك بكثير، لأن أيّ تغيير مُستقبلي سيشمل حتماً الواقع الجغرافي، قد تتوحَّد إمارة في أخرى، أو تتفتَّت دولة إلى دويلات، وهو هدف استعماري دائم، يفرض علينا التأمّل في واقع الأحداث الجارية المُتسارِعة في المنطقة العربية كلها، التي قد تتغيّر من ساعةٍ إلى أخرى.

في غمرة الحملات العسكرية والإعلامية بين الدولة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، تبدو دول الخليج في حيرةٍ من أمرها، تريد من أميركا أن تحارب إيران وتنتصر عليها انتصاراً ساحِقاً يشفي غليلها السياسي والطائفي، رأينا أنه، ما أن وصلت حاملة الطائرات الأميركية "إبراهام لينكولن" إلى منطقة الخليج الفارسي يوم الخميس 9 أيار|مايو 2019، حتى بدأ الصُراخ الخليجي في الترحيب بالحامِلة الاستعمارية، وتوقّعوا أن أميركا ستُحارِب وتهزم إيران خلال أيام، وظهرت عناوين رئيسة في صحف خليجية تقول مثلاً "حان وقت تأديب إيران"، أو "هزيمة الفرس خلال أيام"، وهو ما لم يحدث، ولكن بدأ التراجُع الأميركي تدريجاً، وتخلّى الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" عن شروطه وطلب التفاوض من دون شروطٍ مُسبّقة مع الجمهورية الإسلامية، ثمّ قام الحرس الثور الإيراني بإسقاط طائرة تجسّس أميركية فوق الأراضي الإيرانية، سعرها يتعدّي مائتي مليون دولار، ولم يتعدّ ردّ الفعل الأميركي سوى مزيدٍ من فرض عقوبات على الدولة الإيرانية، بل طالب "ترامب" الدول المُستورِدة للنفط من الخليج أن تحمي أمنه، وهو يقصد "الصين واليابان وبعض دول الاتحاد الأوروبي"، كما لو كان يريد فرض يديه عن حماية العروش الحديثة جغرافياً، وإن كانت قديمة تاريخياً.

ولا نتعجَّب عندما يشعر الخليجيون بالإحباط، وعلى رأي الصحافي المصري المشهور الراحل "محمّد حسنين هيكل"، الذي قال "إن دول الخليج لا تستطيع حماية نفسها، ولا تمتلك ضد إيران إلا الشكوى والتوسّل لأميركا" وهو مازال يحدث، ولكن أميركا لها مصالحها الاستعمارية والصهيونية، فضلاً عن الرؤية الأميركية لنفسها كقوّة عُظمى لا تريد التفريط فيها بالهزيمة من إيران، ولكن الدول الخليجية ترى نفسها تساعد إيران من دون أن تدري وتدفع أمولاً طائلة، وهو غباء سياسي مُنقطِع النظير، ساعدوا الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ثمّ صرخ وزير الخارجية السعودي الراحل"سعود الفيصل" مُتّهماً أميركا بأنها احتلت العراق وسلّمته لإيران، وهو استدراك خليجي مهووس بالحماية الاستعمارية لوجودهم، تماماً مثل الحماية الاستعمارية للوجود الصهيوني، فلقد تأسّست الدول الخليجية ضد حقائق الجغرافيا وضد منطق التاريخ، نشأت على أساس وظيفي تؤدّيه لخدمة المشروع الاستعماري أواخر القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين، احتلّت بريطانيا الموانئ على ضفاف الخليج والبحر العربي، رسميّاً بعد إقرار اتفاقية "سايكس-بيكو عام 1916"، كان الخليج من نصيب بريطانيا، وقد احتلّت "عدن وعُمان وقطر والكويت والبحرين" ولم تسعَ للسيطرة على شبه الجزيرة العربية، ولكنها عقدت "معاهدة دارين" مع الملك السعودي المؤسِّس "عبد العزيز آل سعود" عام 1915، وهي المعاهدة التي ضمنت حماية عرش الأسرة السعودية حتى اليوم، وقد ورّثت بريطانيا لأميركا حماية السعودية وباقي دول الخليج، وقد تزامَن ظهور النفط مع علوّ كعب الحركة الصهيونية، وبالتالي تحقّق الهدف الاستعماري، وهو تفتيت الدول العربية واستنزاف النفط واحتلال الصهيونية لأرض فلسطين في وقتٍ واحدٍ تقريباً، وكما يرى الباحث البريطاني "كريستوفر ديفيدسون" في كتابه "ما بعد الشيوخ ... الانهيار المقبل للممالك الخليجية"، ترجمة "شركة هيرست وشركاه المحدودة في لندن، وطبعة بيروت عام 2014، حيث قال:"نشأت أغلب تلك الممالك، في النصف الأول من القرن العشرين، برعايةٍ بريطانية، على قِيَم قبلية عشائرية، حيث تتحكّم قبيلة ما في مساحةٍ جغرافيةٍ غالباً صغيرة، باستثناء السعودية، على ساحل الخليج، بدعم ورعاية بريطانية، وتقوم تلك القبيلة المُسيطِرة بشراء ولاءات القبائل الأخرى عن طريق توزيع القِيَم الإيجارية التي تدفعها إليها بريطانيا، نظير استخدام موانئهم وأراضيهم، وتجمع بريطانيا كل تلك القبائل الحاكِمة معاً عن طريق اتفاقيات ثنائية معها ما يسمح بإقرار السلام بين تلك القبائل وبعضها البعض وعدم نشوب صراعات بينها، وقد حافظ الحُكّام على العقد الشفهي بينهم وبين رعاياهم، فالحكومات التي تُدير البلاد تستند إلى سلطةٍ أبوية، تقوم بتوزيع الثروة على رعاياها عبر نقودٍ ريعية" إلى آخر ما قاله، هذا إلى جانب استغلال الدين الإسلامي لقطع الطريق على أيّة جماعة دينية مُعارِضة، كما تحرص الإمارات الخليجية على توزيع بعض ثرواتها ومواردها على الدول العربية والإسلامية، في شكل هباتٍ ومشروعات تنموية وأحياناً قروض طويلة الأجل أو مُنعدِمة الفائدة، ولكنها مشروطة بخدمة المشروع الأميركي|الخليجي|الصهيوني، ولذلك لم تساعد السعودية الدول التي لا تخدم سياستها، مثل سوريا واليمن والجزائر والعراق، ثمّ فضّلت نشر الدعوة الوهّابية بدُعاةٍ إقليميين داخل كل دولة، وهو ما أدّى إلى انتشار الفكر التكفيري، بالإضافة إلى أن حُكّام الخليج استبدّوا على مواطنيهم، ولكنهم زرعوا روح الغرور في نفوس مواطنيهم فاستبدّوا على الغرباء الأجانب، فالخليجيون هم أصحاب أعمال، والعمّال الأجانب لديهم مُجرّد خَدَم، فلا نجد عند شعوب الإمارات الخليجية، مَن يعمل في مِهَنٍ بسيطةٍ ولكنها هي الأهم، فلا نجد حِرَفيين مثل الكهربائي والنجّار والحدّاد والميكانيكي والسبّاك وغيرها من المِهَن التي تدلّ على عراقة شعب وتنوّعه، كما استغلّوا المال في شراء وسائل الإعلام وتجنيس الجنود غير الخليجيين، كمُرتزقة، مثلما يقومون بالعدوان على الدولة اليمنية منذ أربعة أعوام 2015 – 2019، قد يكون ما ذكرناه من أسباب بقاء تلك الإمارات، ولكنها لا يمكن أن تمنع سقوطها.

وهنا نستشرف مستقبل دول الخليج، في حالتيّ حدوث أو عدم حدوث "مواجهة أميركية إيرانية"، ففي حال حدوث مواجهة عسكرية، إذا اعتدت أميركا على إيران وضربتها بالصواريخ والطائرات، ستقوم إيران بضرب القواعد الأميركية في دول الخليج برمّتها، ويتمّ غَلْق "مضيق هرمز"، وتخرج الموانئ السعودية وغيرها من الخدمة النفطية، ويقوم جنود "أنصار الله" في اليمن بالتوغّل في الأراضي السعودية، كما تقوم المقاومة في العراق بضرب القواعد الأميركية في العراق، أي يختلط كل شيء في الداخلين السعودي والأميركي والصهيوني جميعاً، ولا نغفل عن تحرّك التظاهُرات ضد العدوان الأميركي على إيران في السعودية والبحرين والكويت وقطر ولبنان، وربما تدخل الدول الخليجية في شغبٍ سياسي جغرافي ديني غير مسبوق، ولا نعتقد أنها تحسَّبت له، مثلما لم تتحسَّب قدرة إيران في الانتصار على عدوان "صدّام حسين" طوال ثمانية أعوام، انتهت باحتلال "صدّام" للكويت عام 1990، أما في حال حدوث انفراج في الأزمة الإيرانية الأميركية، مثلاً حدوث تراجع أميركي عن العدوان، أو سقوط الرئيس "دونالد ترامب" في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، فسوف تدفع دول الخليج تكاليف حماية العروش، وتسقطهم اقتصادياً، فحكّام دول الخليج خاسرون في كل الأحوال، وللأسف تخسر شعوبهم معهم، هذا ما سوف نراه يحدث قريباً رغم أنهم يحسبوه بعيداً، وإن غداً لناظره قريب...