"الممر".. رؤية مصرية تدعم المقاومة في عملٍ سينمائي حربي درامي

تظل نكسة حزيران/يونيو 1967، أكبر مأساة في التاريخ العربي الحديث، وبسبب عار الهزيمة، ظلّت أحداثها معتمة في السينما المصرية، وتمّ إخراج فيلم يتيم عنها هو "أغنية على الممر" إنتاج عام 1972، والممر هو "ممر متلا" الذي يقع بطول 32 كيلومتراً بين جبال شاهقة تصل ما بين شمال سيناء وجنوبها، ويروى قصة خمسة جنود مصريين مُحاصرين عند الممر خلال أيام النكسة، حتى استشهد منهم أربعة، وعاد واحد ليروى المأساة، ولكن الفيلم تمّ منع عرضه لعدّة سنوات، وظلت أحداث النكسة مجهولة سينمائياً، اللّهم إلا في بعض لقطات أفلام أُنتجت عن حرب النصر في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، مثل أفلام "أبناء الصمت – الرصاصة لا تزال في جيبي – الوفاء العظيم، وغيرها من أفلام  العبور، وظلت نقطة البحث عمّا حدث قبل وبعد حرب 1967 غائبة، حتى تمّ مؤخراً إنتاج وإخراج فيلم "الممر" من تأليف "أمير طعيمه" وإخراج "شريف عرفه"، ولم يأت إسمه  من "ممر متلا"، ولكن صنّاع الفيلم، جعلوه ليكون دالاً عن التحرّك من اليأس للأمل، ورؤية النور في آخر الممر.

فيلم الممر

شاهدنا الفيلم، لا ننقده فنياً، ولا نخوض في تفاصيله، فلسنا من نقّاد الفن السينمائي أو الدرامي بشكلٍ عام، ولكننا ننظر إليه من زاوية قومية سياسية، حيث يوجد عدوّان لا ثالث لهما في الضمير الشعبي للمصريين، هما "الصهيونية والإرهاب"، وما يتفرّع منهما من أفكار عنصرية وتكفيرية واستعمارية، صحيح أن لغة السلام متواجدة على المستوى الرسمي، لكنها في الضمير الشعبي مرفوضة، وهنا يأتي الحديث عن فيلم "الممر"، الذي جاء في توقيت إصرار "دونالد ترامب" على تسويق "صفقة القرن" وشطب القضية الفلسطينية من الوجود السياسي، وإعلاء قِيَم السلام مع العدو الصهيوني، ومن ثمّ جاء توقيت عرض فيلم "الممر" مناسباً، فهو يُعرَض في دور السينما في كافة المدن المصرية الكبرى، وأغلب المشاهدين من الشباب، الذين ظلوا يصفّقون طوال الفيلم تفاعلاً مع شخصياته التي تبثّ فيهم الأمل في النصر على العدو الصهيوني، و"الممر" مستمر في تحقيق أعلى إيرادات الأفلام التي عُرِضَت منذ عيد الفطر المبارك، ولم تكن صدفة أن يكون أول العرض يوم 5 حزيران/يونيو 2019 ، وهو توقيت مناسب.

يتناول "الممر" فترة ما قبيل النكسة عام 1967 وما تبعها من احتلال أراضي 3 دول عربية، ثم بداية حرب الاستنزاف(1967 – 1970)، وتدور أحداث الفيلم آخر عام 1968 وذلك في إطارٍ درامي حربي، يرصد أثر هذه الفترة على الشعب والجيش في مصر، وكيفية تحويل الجنود من حال الانهزامية التي تملكتهم آنذاك إلى طاقة إيجابية مشحونة بالأمل والانتصار، فقدّم قصة من بطولات فرقة صاعقة مصرية .

يبدأ الفيلم بأغنية "أمّ كلثوم" الرائعة: "راجعين بقوّة السلاح|راجعين نحرّر الحمى|راجعين كما رجع الصباح|من بعد ليلة مظلمة"، وكان اختيار ذاك النشيد الكلثومي موفّقاً لشحن المشاهد، خاصة الشباب الذين لم يعيشوا تلك الأيام السوداء المُفعمة باليأس، كما يبحث الفيلم عن المسكوت عنه، وهو سبب الهزيمة،  فرأى صنّاع الفيلم أن السبب الرئيس في الهزيمة يعود، كما جاء على لسان الضابط "نور" الذي يلعب دوره الفنان "أحمد عز" وهي: "مكنتش(لم تكن) نكسة ولا هزيمة ولا حرب بقوانينها" هذه العبارة تحمل نقداً واضحاً، لأداء القيادة السياسية بقيادة الرئيس "جمال عبد الناصر"، وأيضاً القيادة العسكرية، ويحمّلها مسؤولية الهزيمة، هي وليس الجنود أو الضباط الذين كانوا متمسّكين بالقتال حتى اللحظة الأخيرة، لولا أمر الانسحاب الكارثي الصادر من قائد الجيش "المشير عبد الحكيم عامر"، يقول أحد الجنود في الفيلم: "نحن انهزمنا قبل أن ندخل الحرب"، وهو أمر صريح صحيح، فالجيش المصري لم يدخل حرباً، ولكن الضبّاط والجنود، تحمّلوا عار الهزيمة، لكن في الوقت ذاته يوضح حجم الرفض من صغار القادة للهزيمة وللانسحاب والرغبة في المواجهة وتحميل المسؤولية للقيادة السياسية والعسكرية وللعشوائية والفوضى وانعدام التدريب والكفاءة، والمعاصرون لتلك الفترة من أمثالنا، يشعرون بمدى الجروح العميقة التي حدثت في الشعب وأفراد الجيش، وعاد المصريون للنكتة السياسية تهكّماً وسخرية من أنفسهم ومن جيشهم، ولم ينس صنّاع "الممر" هذه اللحظات التي حدثت بين الشعب والضباط وذويهم، مثل المواجهة بين الرائد "نور" وعدد من أفراد الشعب الذين سخروا منه، فيضطر لضرب بعض الأفراد، ثم يأتي مشهد بحثه عن إبنه "علي" ليجده واقفاً وعلى وجهه أثر الضرب، من زملائه الذين عيّروه بوالده المهزوم.

حاولت القيادة السياسية إخراج الجيش من حال الإحباط، وكان الجنود يريدون العودة إلى سيناء بعمليات عسكرية، ليثبتوا لأنفسهم وللشعب، أن الجيش المصري عندما يُحارب ينتصر، لأنه يدافع عن الحق، وأن الحرب لم تنته، يقول "نور" قائد كتيبة الصاعقة "الحرب لم تبدأ في 5 حزيران|يونيو، بل بدأت الآن"، وهو يقصد العملية التي كلّفته بها القيادة، بتدمير أكبر معسكر للعدو في قلب سيناء عقب الهزيمة بأسابيع قليلة، ومن هذه النقطة تبدأ أحداث الفيلم، وتنتهي بالنصر في تدمير موقع العدو، وتحرير الأسرى المصريين وأسْر بعض الإسرائيليين ومنهم قائدهم "ديفيد"، وهو تمهيد لحرب الاستنزاف، التي أدارها الجيش بحرفيّة عالية، وكبّدت الدولة الصهيونية الكثير، فالبطل "نور" مُتحمّس وقوى وغيور على وطنه ويتحرّق شوقاً للثأر، هو مُثقّف ويُجيد العبرية بطلاقة، ودخل في حوار ديني ووطني مع الضابط الإسرائيلي الأسير "ديفيد"، في كل الموضوعات من أول الأرض إلى الدين، وأدّى شخصية "ديفيد"، الفنان الأردني "إياد نصّار"، الذي نجح ببراعةٍ في تجسيد قائد المعسكر الصهيوني، الذي يتلذّذ بإذلال الأسرى المصريين وهَدْمِ روحهم المعنوية وقتل بعضهم، وحتى عندما وقع "ديفيد" في الأسْر، أظهر الشخصية الصهيونية، التي تُجيد كل أنواع الخِداع، ولكن أفحمه "نور"، عندما تحدّث عن الصهيونية العنصرية، وفنّد حججه القانونية والتاريخية حول فلسطين، وأن الحرب لم تنتهِ، كل هذا صاغه فيلم "الممر" بكياسة فنية غير مباشرة، ولكنها مؤثّرة وجدانياً وعقلياً، وكانت عبارة "نور" : "مش معنى إن ييجي(يدخل) فيك هدف بداية المباراة إنها خلصت، المباراة لسّه مخلصتش(لم تنته)"، تأكيد على أن الصراع مع الكيان المحتل مستمر، وأنه لم ولن ينتهي من دون عودة الحقوق لأهلها.

الفيلم وإن لم يتطرّق إلى القضية الفلسطينية، بصورةٍ مباشرة، إلا أن البُعد العربي كان حاضراً بقوّة في تفاصيله، وذلك من خلال أكثر من جملة تحدّثت أكثر من مرة عن بقاء وزوال "إسرائيل" في المنطقة، وهي نقطة إيجابية، مع وجود أجيال جديدة تجهل الصراع وتهتم بقضايا الداخل على حساب فلسطين، وفي النهاية يخرج المشاهِد بجرعةٍ وطنيةٍ قوميةٍ، لأن الفيلم نجح في إعادة بثّ تلك الروح في نفوس الشباب المصري والعربي، وتعريفهم بجوهر الصراع مع العدو الصهيوني، وأهم رسالة في "الممر" هي عودة الوعي مرة أخرى للعقل المصري وتذكيره ببطولات وتضحيات أبنائه في معارك الشرف والمجد، وهو أيضاً فيلم يدعو للمقاومة التي تردع العدو..

تحية لكل صنّاع "الممر"، فلولا ضيق مساحة النشر لأثنينا على كل فرد منهم بالإسم..