القمّة الرُباعية: تبايُن أوروبي أميركي حول الحلّ السوري!
جوشوا لانديز الخبير الأميركي البارز، المُتخصّص بالشأن السوري، سارعَ إلى وصف القمّة الرُباعية في إسطنبول على حسابه على "تويتر" بأنها "حقيقة تعبّر عن نفسها بعد انتصار الأسد عسكرياً"، مُعتبراً أن "الأهمية الحقيقية لمشاركة ألمانيا وفرنسا في قمّة إسطنبول هي النأي بنفسيهما عن واشنطن والانضمام إلى عملية أستانا".
ما يجعلُ قراءةَ قمّةِ إسطنبول الرُباعية بين قادة روسيا وتركيا وألمانيا وفرنسا، صعبةً للغاية، هو أنها أول قمّة من نوعها تُعقَد على هذا المستوى وبهذه الصيغة في سبيل إيجاد حلٍّ لواحدةٍ من أكثر أزمات العالم تعقيداً وتأثيراً هي الأزمة السورية بكل تشعّباتها الداخلية والخارجية. وفي مثل هذه الأحداث النوعيّة والمفصلية التي تؤشّر إلى تغييرات سياسية جذرية على مستوى العالم، قد يكون مهماً التركيز على سطور البيان الختامي ومُقرّراته إزاء بعض التفاصيل كاللجنة الدستورية وأزمة اللاجئين واستدامة وقف إطلاق النار في إدلب وغيرها، لكن يبقى الأهم هو دلالات الحدث ورمزيّته في سياق استشراف طبيعة التحوّلات التي تشهدها المُعادلات الدولية، وتحديد اتجاهات التيارات السياسية التي بدأت تظهر ملامح سعيها ليس للاستقلال عن التيار الأميركي وإنّما لمحاولة ضبطه وتفادي مساوئه في الحقبة الترامبية ذات الطبيعة "التسونامية".
تغيّرت الأولويات الأوروبية بعد ثماني سنوات من الحرب السورية، ولم يعد في الأفق الأوروبي أيّ منظور يتعلّق بتغيير نظام الحُكم في سوريا، بل يمكن القول نتيجة المؤتمر الصحفي للرؤساء الأربعة في أعقاب انتهاء أعمال القمّة، أن فرنسا وألمانيا باعتبارهما القائدين الفعليين للاتحاد الأوروبي، أصبحا يميلان إلى الاستماع لهواجس أمنِ قارّتهما ومُتطلّباتها الخاصة أكثر من الاهتمام بالتفاصيل الداخلية للأزمة السورية. وتجلّى هذا الميلُ في تركيز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على منع تدفّق اللاجئين والجهاديين إلى أوروبا، وتمسّكهما من أجل ذلك بمطلبٍ أساسي هو استدامة وقف إطلاق النار في إدلب. في المقابل اقتصرت المطالب السياسية للدولتين على تشكيل اللجنة الدستورية قبل نهاية العام الجاري بما يسمح بإطلاق العملية السياسية الخاصة بسوريا، من دون أية إشارة إلى الانتقال السياسي، والأهم من دون أية إشارة إلى الدور الإيراني في سوريا.
وفي المُحصّلة من وجهة نظر أوروبية، تعتبر قمّة إسطنبول مؤشّراً هاماً على التبايُن بين سياسة الولايات المتحدة وأولويّاتها في سوريا، وسياسة وأولويّات أوروبا. إذ لم يعد خافياً أن السياسة الجديدة لواشنطن تربط بين بقاء قوّاتها المحتلّة في شرق الفرات وأمرين أساسيين هما: خروج القوات الإيرانية من سوريا والتقدّم في العملية السياسية.
ومن شأن ذلك أيضاً، أن يطرح العديد من التساؤلات حول مدى التمسّك الفرنسي والألماني بمبادئ "المجموعة المُصغّرة" التي اعتبرت قَطْع العلاقات السورية مع إيران من شروط الحل السوري كما ورد في إعلان المبادئ الصادر عنها في شهر أيلول المُنصَرم.
ولم يكن غير ذي دلالة أن يتعاقب الرئيسان الروسي والتركي على الإشادة بدور إيران في سوريا، وتأكيد الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان على أنه سيجري إطلاع طهران على مُجريات القمّة. إذ ينطوي ذلك على رسالة واضحة حول رؤية الطرفين لأهميّة الدور الإيراني وعدم إمكان الاستغناء عنه كما تحاول أن تفعل الولايات المتحدة. لكن الأهم من الرسالة هو ردّ الفعل الأوروبي تجاهها حيث التزم ماكرون وميركل بالصمت. وربما الصمت هنا لا يكون "علامة رضا" 100%، لكنه على الأقل "حيادٌ" لا يتواءم مع السياسة الأميركية المُنفعلة إزاء كل ما يتعلّق بإيران وأدوارها في المنطقة.
ويظهر بوضوح أن ورقة التين شبه الوحيدة التي تتمسّك بها أوروبا لإخفاء مدى حدّة الانعطافة التي شهدتها مواقفها من الأزمة السورية، هي "ورقة الانتخابات الحرّة" بإشراف الأمم المتحدة. وهي أيضاً كانت الشرط الوحيد الذي وضعته ألمانيا للمشاركة في إعادة إعمار سوريا إبان زيارة وزير الخارجية الروسي لبرلين منتصف أيلول.
ومما له دلالته أن جوشوا لانديز الخبير الأميركي البارز، المُتخصّص بالشأن السوري، سارعَ إلى وصف القمّة الرُباعية في إسطنبول على حسابه على "تويتر" بأنها "حقيقة تعبّر عن نفسها بعد انتصار الأسد عسكرياً"، مُعتبراً أن "الأهمية الحقيقية لمشاركة ألمانيا وفرنسا في قمّة إسطنبول هي النأي بنفسيهما عن واشنطن والانضمام إلى عملية أستانا".
غير أن ما سبق ينبغي ألا يقودنا إلى الإفراط في التفاؤل، لأن التأثير الأوروبي في الأزمة السورية فاعليته أقلّ بكثير من التأثير الأميركي الذي يستند إلى واقعِ احتلالها لحوالى ربع مساحة الأراضي السورية. كما أنه لم تتّضح إلى الآن التداعيات المُحتملة للاستراتيجية الأميركية الجديدة في سوريا ومدى قدرتها على تغيير طبيعة التحالفات السياسية القائمة، وبالأخصّ لجهة المساعي الجادّة والكبيرة التي يبذلها جيمس جيفري المبعوث الأميركي إلى سوريا من أجل استعادة أنقرة من أحضان روسيا وإعادة ضمّها إلى منظومة السياسة الأميركية.
وأخيراً، رغم أهمية قمّة إسطنبول وأهمية دلالاتها، يبقى أن مسار الأزمة السورية قد علّمنا جيّداً أن "القمم" يمكن أن تنسخ بعضها بعضاً، وما كان محل الرهان يمكن أن يخرج بسرعة من دائرة الضوء ليحل محله رهان جديد. وهذا يدفع إلى تساؤلٍ جدّي: نحن نترقّب قريباً انعقاد قمّة ثنائية للرئيسين بوتين وترامب، فهل ستبني هذه القمّة على مخرجات القمّة الرُباعية في إسطنبول أمْ على العكس ستضمّها إلى قائمة القمم المنسوخة وتجعل مفاعيلها كأنها لم تكن؟