السِجال حول اللجنة الدستورية .. من إدلب إلى شرق الفرات
ويشكّل المسعى الأميركي للانخراط بفعاليّة أكبر في العملية السياسية الخاصة بإيجاد حلٍ للأزمة السورية، مُستجداً هاماً يدلّ على أن هذه الأزمة ما زالت مسرحاً صالحاً لاستعراض التناقُضات الدولية والعمل على تصفيتها وفق صِيَغ مُتدحرِجة تتغيّر وتتبدّل حسب طبيعة التطوّرات الميدانية والسياسية، واتجاهات مصالح الدول.
تصاعدَ الخلافُ مؤخّراً بين روسيا والولايات المتحدة حول ضبْط إيقاع مسار تشكيل "اللجنة الدستورية" في سوريا. وما بين مطلب "الإسراع" الأميركي ومحاولة "التريّث" الروسية، تحوّل السِجال "الدستوري" بصبغته الدولية إلى عنوانٍ جديدٍ يستشرف الآفاق الجديدة التي تتّجه إليها التطوّرات السورية على كافة الصُعد المحلية والاقليمية والدولية.
ويشكّل المسعى الأميركي للانخراط بفعاليّة أكبر في العملية السياسية الخاصة بإيجاد حلٍ للأزمة السورية، مُستجداً هاماً يدلّ على أن هذه الأزمة ما زالت مسرحاً صالحاً لاستعراض التناقُضات الدولية والعمل على تصفيتها وفق صِيَغ مُتدحرِجة تتغيّر وتتبدّل حسب طبيعة التطوّرات الميدانية والسياسية، واتجاهات مصالح الدول.
ورفعت واشنطن من درجةِ حضورها في أجواء العملية السياسية عبر اتّخاذها لعدّةِ خطواتٍ، أهمّها: العودة للمشاركة في نشاطات جنيف حول الحوار السوري، وتفعيل "المجموعة المُصغّرة" التي وضعت في بياناتها ووثائقها أسساً لحل الأزمة السورية ، أقل ما يُقال فيها أنها تعتبر بمثابة التحدّي لمساريّ أستانا وسوتشي. وأخيراً من خلال الضغط على المبعوث الدولي ستيافان دي مستورا للإسراع في تشكيل اللجنة الدستورية ومطالبته بتقديم تقرير حول ذلك في نهاية هذا الشهر.
وأصبح من الواضح في ظلّ المطالب والضغوط الأميركية للإسراع في تشكيل اللجنة، والردود الروسية الرافِضة والمُنادية بضرورة "التريّث"، أن هذا السِجال الدبلوماسي بين القوّتين العُظميين ينطوي في جوانبه الخفيّة وامتداداته السياسية على تحدّيات أعمق وأخطر مما يوحي به عنوانه الدستوري.
ولكن أيّة مفارقةٍ هذه في أن تُطالب واشنطن بتنفيذ مُقرّرات مؤتمر سوتشي للحوار السوري الذي اعتبرته في حينه، أواخر العام الماضي، فاشلاً ولم يحقّق شيئاً ملموساً، بينما تحاول موسكو تأجيل التنفيذ وهي التي رعت المؤتمر وأشرفت عليه واعتبرته إنجازاً سياسياً كبيراً لها؟
لعلّ الإطار الاستراتيجي الأوسع لفَهْمِ تحرّكات واشنطن هو رغبة الإدارة الأميركية في حَصْرِ الصراع مع روسيا ضمن النطاق السياسي والدبلوماسي وبالتالي رفع أية صبغة عسكرية عن هذا الصراع. وربما هذا ما يُفسّر الاتجاه الأميركي نحو زيادة عدد دبلوماسيّها في شرق الفرات ، في الوقت الذي صرّح فيه أكثر من مسؤولٍ أميركي إن البقاء في سوريا ليس المقصود منه البقاء العسكري. ويصبّ في هذه الخانة أيضاً انخراط واشنطن في مسار تشكيل اللجنة الدستورية.
لكن هذه النظرة الاستراتيجية لتأطير الصراع مع روسيا، لا تلغي أن لدى واشنطن أهدافاً أخرى تريد تحقيقها قبل فوات الأوان، وأهمّها الدّفع نحو تشكيل اللجنة الدستورية وتحريك مسار العملية السياسية قبل أن يكتمل تنفيذ اتفاق سوتشي (بين تركيا وروسيا) بخصوص إدلب. لأن واشنطن تعتقد أن نجاح اتفاق سوتشي سيؤدّي إلى تكريسه كصيغةٍ مقبولةٍ لإيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية ، وبالتالي تكريس أطرافه كلاعبين أساسيين يمكنهم اللعب بعيداً عن أيّ دور أميركي.
وهذا سيعني في حال تحقّقه أن واشنطن أصبحت خارج إطار اللعبة السياسية، وبالتالي من المُحتَمل أن ينحرف صراعها (هي أو حلفائها) مع خصومها الاقليميين والدوليين في منطقة شرق الفرات، إلى المُنعطفات العسكرية والأمنية المحظورة.
أما موسكو، فتكمن مصلحتها الحالية في تأجيل مقرّرات مؤتمر سوتشي بخصوص تشكيل اللجنة الدستورية، إلى ما بعد الانتهاء من تنفيذ اتفاق إدلب ، لأن ذلك سيؤدّي إلى تثقيل دورها (ودور شركائها في مسار أستانا) في حل الأزمة السورية على حساب إضعاف الدور الأميركي - الغربي.
ويبدو أن الحشود الروسية بالقُرب من مدينة الميادين في شرق نهر الفرات، التي تحدّثت عنها تقارير إعلامية أميركية مؤخّراً، تنطوي على رسائل عديدة مُتباينة موجّهة إلى عدّةِ أطرافٍ، قد يكون أهمّها تلك الموجّهة إلى الطرفِ الأميركي ، ومفادها أن الضغط العسكري سيبقى أداةً مشروعة لإجبارِ القوات الأميركية على الخروجِ من سوريا.
ولا يغيب أن "الإسراع" الأميركي في تحريك مسار اللجنة الدستورية، من شأنه أن يُثير المخاوف الدفينة لدى أنقرة إزاء إصرار واشنطن على إيجاد موطىء قدم لحلفائها في "قوات سوريا الديمقراطية" ضمن مسار جنيف، لذلك ربما أصبحت أنقرة تفضّل الانخراط أكثر في مساريّ أستانا وسوتشي. وكان مما له دلالته أن أنقرة طالبت (حسب صحيفة الشرق الأوسط) بأن يحصل ممثلو المجتمع المدني في اللجنة الدستورية على موافقة دمشق، لأن معنى ذلك أن أنقرة حسمت خيارها بتفضيل "التريّث" الروسي على "الإسراع" الأميركي وربما أكثر من ذلك حَسَمَت خيارها أيضاً في دعم الرسائل الروسية شرق الفرات.