قنبلة الشاهد ومصير حكومته الغامض

بعد تعليق العمل بوثيقة قرطاج 2 بسبب الفشل في الاتفاق على النقطة الأخيرة منها حول تغيير رئيس الحكومة، خرج رئيس الحكومة عن صمته وفاجأ الفاعلين السياسيين بكلمة تحمل الكثير من عناصر الحدّة، هاجم فيها سياسات حزبه "نداء تونس" واتّهم قيادته بتدمير الحزب وإفساد العمل السياسي، ما جعل خطابه يتحوّل إلى قنبلة سياسية تُهدّد شظاياها المشهد السياسي برمُّته.

رئيس الحكومة التونسية يقول إنه ليس في وارِد التنازل عن صلاحياته وموقعه

بدا يوسف الشاهد مُستعصياً وواثقاً. قال إنه ليس في وارِد التنازل عن صلاحياته وموقعه وهو ما يعني أنه يشعر بقوّة إسناد من جهاتٍ نافِذةٍ داخل البلد وخارجه أعطته القوّة اللازمة لمُهاجمة نجل رئيس الدولة نفسه، ليفتح بذلك الباب أمام مشهدٍ جديدٍ بدأت ملامحه ترتسم على وَقْع اصطفافات وحسابات من شأنها تعقيد المناخ السياسي العام في البلاد.

اعترف الشاهد بالأزمة السياسية التي تعيشها تونس، وقال لا بد من مُصارحة الشعب بها. لكن المُفاجئ هو إقراره بأن هذه الأزمة بدأت في حركة "نداء تونس" التي أصبحت اليوم لا تُشبه الحركة التي انتمى إليها في عام 2013 بسبب سلوك مديرها التنفيذي حافظ السبسي الذي أفرغ الحركة من كوادرها ، ودفعها للمغادرة وقادها من هزيمة إلى هزيمة وتسبّب في خسارتها لمليون صوت من قاعدتها كما قال.

من الطبيعي أن نقرأ في ذلك محاولة لإبعاد السبسي الإبن عن نداء تونس وتقرُّباً من حركة النهضة التي تمسّكت به. غير أنه من جهةٍ أخرى من الممكن أن يكون الشاهد قد نسّق كلمته مع السبسي الأب الذي كان مدعوّاً إلى اجتماع مصالحة بين القوى الليبية في باريس عند إلقاء الشاهد كلمته.

لا تريد حركة النهضة أن يكون الشاهد أحد المرشّحين للانتخابات الرئاسية القادمة. وهذا الأمر سبق للغنوشي أن أعلنه قبل سنة من الآن. وقد يكون ذلك بسبب نوايا رئيس حركة النهضة ترشيح نفسه لتلك الانتخابات، ورغبته في إبعاد رئيس الحكومة عن المُنافسة من خلال إبقائه في منصبه بما أن أحد الشروط التي وضعت أمامه عند تنصيبه هو الامتناع عن الترشّح للرئاسيات.

ومع ذلك ليس غريباً أن يتفاجأ الشاهد بتخلّي حركة النهضة عنه إذا فهمت أنّه بات بلا سند سياسي بسبب موقفه الأخير ، وبلا حظوظ في الفوز لو قرّر الترشّح لانتخابات الرئاسة. فقد أصبح واضحاً أن هذه الحركة تمارس قدراً كبيراً من النفعيّة السياسية التي تجعل مواقفها مُتقلّبة.

يختزل الصراع السياسي في تونس، تدافعاً مُعقّداً بين مراكز النفوذ الرئيسية في البلاد لرسم توازنات جديدة، لكنه لم يخرج حتى الآن عن السيطرة، ولم تصل الأمور إلى حد خلط الأوراق وتغيير قواعد اللعبة، لكنه بلا شك صراع يُسبِّب الكثير من الصّداع لعامة الناس الذي يكتوون وحدهم بتداعياته المُرهِقة.

بدل اللجوء إلى الدستور لفضّ أية مشكلات، اخترع الرئيس السبسي وثيقة قرطاج 1 لإسقاط حكومة حبيب الصيد. ثم اخترع وثيقة قرطاج 2 لإسقاط حكومة الشاهد. نجح في المرة الأولى غير أنه في المرة الثانية اصطدم بفيتو "حركة النهضة" التي لم يتعوّد أحد أن يرى لها مواقف مُخالفة لمواقف حركة "نداء تونس" وزعيمها المؤسّس الباجي قائد السبسي. وهذا ما وسَّع دائرة الخيال لدى المُراقبين من أجل فَهْم ما يحدث فعلاً.

ينصّ الدستور على ضرورة تقديم لائحة سَحْب ثقة مُمضاة من 73 نائباً ويصادق عليها 109 نواب في حال قرّر طرف مُعيّن سحب الثقة من الحكومة. ويجب أن يتم النصّ على سبب تقديم اللائحة وتثبيت إسم رئيس الحكومة البديل عليها.

هذه الطريقة الدستورية اعتُبِرت مُعقّدة وغير مضمونة النتائج، وتُعطي سلطة عَزْل رئيس الحكومة وتعيين خلَفه إلى نواب الشعب. لا يريد الرئيس أن يكون بعيداً عن عمليات عَزْل رؤساء الحكومات وتعيينهم . وبدلاً عن الآلية الدستورية، تم الالتجاء في كل مرة إلى آليات أخرى مُبتكَرة، ليتوقّف كل شيء على مدى أشهر إلى أن يستسلم رئيس الحكومة ويعلن الاستقالة، ويصبح من السهل بعد ذلك تعيين الأكثر قرباً وسمعاً وطاعة والأقل اعتراضاً وتنطّعاً.. فشل السياسيون الفاعِلون في الوصول إلى اتفاق حول وثيقة قرطاج 2. وعندما فشلوا بدأوا بالحديث عن الآلية الدستورية.

لم يتأخّر أمين عام اتحاد الشغل في إعلان انسحابه من هذه الوثيقة وقال إنه أصبح غير معنيٍّ بها. يريد الاتحاد إسقاط حكومة الشاهد. فهو لا يرى فيها سوى أداة لتمرير برامج صندوق النقد الدولي تماماً مثل الحكومات السابقة التي تمّت إقالتها. وقد سبق للاتحاد أن أسقط حكومات حمادي الجبالي وعلي العريض ومهدي جمعة. وهو أول من دعا إلى رحيل حكومة الشاهد الحالية.

لم يعد اتحاد الشغل مجرّد نقابة تدافع عن حقوق الشغّالين، بل فرض نفسه قوّة سياسية وازِنة في البلاد. بل نكاد نقول إنه أكبر حزب سياسي معارض. وهو الضدّ الدائم لأحزاب اليمين الحاكِمة منذ "الاستقلال".

خرج أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي غاضباً بعد تعليق العمل بوثيقة قرطاج 2 بسبب فيتو رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، وبدأ يشعر أن هذه الحركة في طريقها إلى التغوّل، وهو ما يوحي أن معركة الاتحاد بدأت تتجذَّر مع "حركة النهضة" شريك "نداء تونس" في الحُكم.

لا يعني تعليق العمل  بوثيقة قرطاج 2 وانسحاب اتحاد الشغل منها الاستسلام لإرادة حركة النهضة، بل يعني اللجوء مرة أخرى إلى قواعده لإجبار الجميع على القبول بالتخلّي عن حكومة الشاهد. فالاتحاد يملك القدرة على إرباك المؤسّسات ووقف عَجَلة الإنتاج من الأساس. وهذا يعني المزيد من التخبّط الحكومي الذي لا يترك للشاهد أي هامش من المناورة.

لم تثمر أربع سنوات من التوافق بين حركتي النداء والنهضة سوى مزيد من الأزمات التي ضاعفت مُعاناة الناس. وأصبحت الحاجة أكيدة لتحمّل الحزب الأغلبي مسؤولياته وتشكيل الحكومة التي يسمح بها الدستور ، ثم تحمّل كل تبعات ذلك سواء كانت إيجابية أو سلبية، بدل محاولة كل طرف رمي فشله على الآخرين.