أردوغان في امتعاضه من نتنياهو

يريد أردوغان ربط نفسه بالقدس. والمسألة لا تتوقف عند حملته الانتخابية الجارية، بل تتجاوز ذلك على مدى أبعد يتعلق بتوجّهات حزب العدالة والتنمية المُعلَنة والتي لا يمكن إسقاطها لأنها ستجعله يخسر الكثير من جماهيريته في الداخل. لم تتغيّر علاقة تركيا بإسرائيل منذ سبعة عقود. واستمرار العلاقات من دون الوصول إلى قطيعة كاملة لن يعتبر براغماتية تركية ضرورية.

"ليست القدس مجرّد مدينة، وإنما هي رمز وامتحان وقبلة. وإذا لم نتمكّن من حماية قبلتنا الأولى فلن نستطيع التطلّع لمستقبل قبلتنا الثانية في أمان". هذا الكلام قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سياق حملته ضد حدَث نقل السفارة الأميركية إلى القدس والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. وهو يقصد أن الكعبة هي أيضاً في خطر إذا لم يستطع المسلمون حماية القدس.

لم يكتف أردوغان بإطلاق التصريحات المُندّدة بالممارسات الإسرائيلية في القدس وغزّة بل إنه سارع إلى طرد السفير الإسرائيلي في أنقرة بشكلٍ مؤقّت، واستضافة قمّة "إسلامية" خرجت بمجموعة من القرارات رغم أنه لا توجد ضمانات حقيقية لتطبيقها. كثيرون يرون في تصريحات أردوغان ومواقفه المُعلنة التقاطاً لذكرى النكبة وما حدث فيها من أجل استخدامها في حملته الانتخابية. غير أن آخرين يرون فيها انعكاساً لما يؤمن به الرجل الذي ظلّ مقيّداً بإرث مؤسّس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.

عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحُكم عام 2002 لم يتغيّر شيء في واقع العلاقات التركية مع الكيان الصهيوني الذي اعترفت به تركيا منذ عام 1949، وأقامت معه حلفاً سرّياً في الخمسينات ثم خرج إلى العلَن في التسعينات. لم يتحدّث أردوغان في سنوات حُكمه الأولى عن القدس وفلسطين ولاذ بالصمت. بل إنه زار تل أبيب وأرسل قواته مع الناتو إلى أفغانستان وهو ما جعل أوباما يبدي أعجابه بالنموذج التركي الذي ينبغي تعميمه في الشرق الأوسط.

كان أردوغان في البداية يأمل بقوّة في عضوية الاتحاد الأوروبي فذهب إلى الفاتيكان لتوقيع طلب انضمام بلاده لهذا الاتحاد مرسلاً بذلك إشارة تفيد أن نهجه سيكون مخالفاً لنهج سلفه نجم الدين أربكان ، الذي اضطره الجيش إلى الاستقالة لعدّة أسباب أوضحها توجّهاته الدينية ومُعاداته لإسرائيل وسعيه لتشكيل كتلة اقتصادية للدول الإسلامية..

تعاملت تركيا مع إسرائيل منذ اعترافها بها باعتبارها حليفاً. لكن ذلك لم ينسحب على حرب 67 وغزوها لبنان سنة 82 حيث أدانت كلتا الحربين. كانت العلاقات الثنائية في أوجها ولم يكن من السهل على أردوغان القطع بشكلٍ فوري مع تل أبيب حتى لو أراد ذلك. بل إنه قرّر الانفتاح التجاري معها رغم بعض القيود على التعاون العسكري المفتوح.

لكن أول خروج لأردوغان عن الخط المرسوم منذ أتاتورك كان بعد حرب غزّة 2008. حينها قال لن نصمت بعد الآن. وكان انسحابه من مؤتمر دافوس سنة 2009 بعد وصفه لشمعون بيريز بقاتِل أطفال، وحادثة سفينة مرمرة التي تسببت بقطع العلاقات عام 2010، مناسبات أخرى لرفع سقف الموقف التركي الجديد.

غير أن ذلك كله قد يكون من "المأذون به" مادامت حركة التجارة والسياحة مستمرة بين إسرائيل وتركيا، وما دامت الصفقات الاقتصادية قائمة، ومنها صفقة تسويق تركيا لخط الغاز الإسرائيلي، وما دامت العلاقات الدبلوماسية مستمرة رغم قرار قطع العلاقات المؤقت آنذاك والتي استؤنفت عام 2013،  بل إن كل تلك التصريحات تصبح، حسب ظاهرها، موجّهة للاستهلاك المحلي لكسب الجمهور في حملته الانتخابية الجارية الآن، ولا تعبّر عن مواقف حقيقية مادامت العلاقات على الأرض لم تتأثّر كما عكست ذلك احتفالات السفارة الإسرائيلية في أنقرة بمرور 70 سنة على تأسيس الكيان المحتل.

بدأت العلاقات التركية الإسرائيلية بتحالف قوي على يد العسكر ثم انخفضت إلى تعاون ثنائي مع الحكومات اليمينية. وعندما جاء حزب العدالة والتنمية تأثّرت تلك العلاقة بشكلٍ ما وبدأ الإسرائيليون يتذمّرون. بل إن أردوغان دخل في سِجال مع بيريز ثم نتانياهو ظنّ معه كثيرون أن أردوغان على بُعد خطوة من قطع علاقاته بكيان الاحتلال بشكلٍ نهائي.

لم يستطع أردوغان اتخاذ أي قرار ضد إسرائيل في حرب غزّة 2008. وتم تبرير ذلك بوجود العسكر النافذ. لكنه بعد حادثة مرمرة 2010 وسقوط ضحايا أتراك قطَع العلاقات. غير أن فشل الانقلاب العسكري صيف 2016 وتخلّص أردوغان بعد ذلك من سطوة العسكر لم يترك له مبرراً لاستمرار تلك العلاقات قوية بأوجهها المتعدّدة.

ورغم أن صادرات تركيا لإسرائيل تصل إلى ملياري دولار إلا أنها تمثل جزءاً بسيطاً من مجموع صادراتها التي بلغت العام الماضي 157 مليار دولار. وعادة ما يتم تبرير استمرارها بالربط التجاري الذي يجعل إسرائيل تتيح لتركيا "العمل التنموي" في الضفة وغزّة إضافة إلى كسب ثقة اللوبيات اليهودية لترطيب العلاقات مع واشنطن وموسكو. وهذا يعني أن تركيا تلعب بالورقة التجارية لمصلحة الفلسطينيين!

يريد أردوغان ربط نفسه بالقدس. والمسألة لا تتوقف عند حملته الانتخابية الجارية، بل تتجاوز ذلك على مدى أبعد يتعلق بتوجّهات حزب العدالة والتنمية المُعلَنة والتي لا يمكن إسقاطها لأنها ستجعله يخسر الكثير من جماهيريته في الداخل. لم تتغيّر علاقة تركيا بإسرائيل منذ سبعة عقود. واستمرار العلاقات من دون الوصول إلى قطيعة كاملة لن يعتبر براغماتية تركية ضرورية.

تأسست إسرائيل في محيط معادٍ، لم يكن لها فيه سوى حليفين هما تركيا وإيران. وإذا ما تطوّر الموقف التركي إلى مستوى الموقف الإيراني بعد سقوط الشاه، فقد تنقلب الصورة، أمام السباق العربي الذي لم يعد خافياً نحو إسرائيل. وتلك واحدة من المفارقات المؤلمة.