الاحتلال الأميركي في العراق يزرع سنجقاً كردياً جديداً في منطقة قنديل

إن الرؤية الراهنة لاستعمال "الكرد" في العراق، تنطلق من إصرار أميركا على أن الجغرافية السياسية الكردية لها تجاوب متعدّد المزايا في بناء التكيّف الأميركي مع الحاجات الكردية وحتى حين تقترف بعض الآثام المطلوبة في مجرى العمل. لذلك هي سارعت إلى التقاط الذبذبات لحزب العمال الكردي في تركيا، منذ عام 2013 حين تم وقف إطلاق النار بين الحزب والحكومة التركية. وانسحبت قواته إلى منطقة "جبل قنديل" في الشمال الشرقي من العراق. لكن الاتفاقية انهارت في عام 2015 عملياً وبعد صعود "داعش" العسكري في الموصل والأنبار. في هذه الحال نجحت أميركا في حياكة علاقات تبغي بلورتها إلى حال استراتيجية مع اشتداد المعارك ضد داعش ومن أجل بناء قواعد عسكرية صديقة لها.

هل كُتِبَ على العراق أن يدفع لمدة أكثر من قرن ثمناً باهظاً للوجود الكردي فيه

هل يقرأ قادة البنتاغون الكتابة على حائط الأحداث الآن؟

يبدو أن هناك تجاوباً مع التصعيد الذي تمارسه قبيلة "فردريك كاغان" في خلية الأزمة في معهد دراسات الحرب، حول المسألة الشرقية. بدأ ببطء التفريق بين أهمية العمل وقيمة الخطاب السياسي. الحلقة المركزية هي الاستمرار في الاحتلال العسكري في العراق لتصريف الأزمات الأخرى للإدارة الأميركية، الترامبوكراسي، وتغطية فشلها في تمتين "كتلة تاريخية" ضخمة حول شعارها بعد التعديل" أميركا أولاً مع حلفائها "وليس وحدها فقط". من هنا فقد تعتقد بعض الرؤوس الساخنة بأن العراق يصلح بأن يكون مرة ثانية بوابة للحل المتجمّد في مناطق أخرى. ويمكن أن يكون التركيز على بناء قاعدة "كردية" جديدة على الحدود العراقية الشمالية المُتاخِمة لتركيا وإيران. وهي النموذج الصارِخ لاستعمال البندقية المأجورة للتفتيت أو تفجير الصِراعات في الحد الأدنى.

وتُركّز هذه الكتابات على أن أميركا لا يمكن أن تتخلّى عن حلفائها ولكنها تحاول التكيّف الموضوعي مع مُجريات الأحداث وهو أهم بكثير من المظهر الأخلاقي للمُنقذ والمُراقب. وهي في تحذيراتها للقيادات الكردية بعدم تخطّي حواجز النار المرسومة، لا تلقي بهؤلاء تحت الدبابة المُعادية لهم بقدر ما تُعيد رسم العلاقات المُتعارِضة على أسُس المصالح الأميركية. لكن العسكري الأميركي المتقاعد جيمس ستافيريديس، يُحذّر من مخاطر المُراهنة على ركوب جوادين في آن واحد في غابة النمور الضارية في المنطقة. وهو يلتزم الموضوعة الجيوسياسية البريطانية منذ، هنري بالمرستون، بأن تركيا هي مفتاح الشرق سياسياً وبأن سوريا والعراق المنصّة الدائمة للوقائع. ومع أنه يُهمل مخاطر الفخّ الجيوسياسي للجموح التركي، لكنه يؤكّد على أن مايجمع أميركا وتركيا من عروة وثقى في مواجهة قوّة المحور الإيراني والسوري سيظل أهم بكثير من المُراهنة على حركات الأقليات الكردية وطموحاتها الصبيانية. بيد أن هذا الرأي يصطدم مع وجهات نظر تتمثّل أولاً في نقد الحروب الأميركية المُعاصِرة ومنها رأي "جوشوا جيلتزر" في مجلة أتلانتيك كانون الأول 2016، والذي يمزج بين وضوح المخفي وغموض المعلوم في استراتيجية دونالد ترامب، ما يكرّس حال الحروب المستمرة ويبدّد الأوهام حول حصول تسويات سياسية في الشرق الأوسط. ومن دون أن يجترح مطارحة سياسية، يعتنق المحلّل في معهد كاتو "كريستوفر بريبل" فكرة حاسِمة حول صعوبة قصوى تعاني منها أميركا في خوض حروب شاملة ، وخاصة وهي تعاني عطباً كبيراً في ترسانتها البحرية. وهو يسخر من الاستراتيجية الأخيرة، ويقول إنها شيك من دون رصيد. بهذا المعنى فإن هذه المُطالعات تجمع على أن ترامب ما زال ملتزماً بحروب الوكالة، وبأن العنصر "الكردي" خلاّق في هذا المضمار في اندفاعه السياسي مع أميركا وقدراته العسكرية القابلة للتطوّر دائماً. لكن الثقوب السوداء في هذه الاستراتيجية تظل هو فشلها في أن تحارب في أكثر من جبهة، ناهيك عن خطأها في محاولة الجمع بين عدّة قوى متناقضة ومتحاربة في جبهة واحدة مشتعلة ومن الصعب إدارة العمليات العسكرية وحتى السياسية فيها. 

إن الرؤية الراهنة لاستعمال "الكرد" في العراق، تنطلق من إصرار أميركا على أن الجغرافية السياسية الكردية لها تجاوب متعدّد المزايا في بناء التكيّف الأميركي مع الحاجات الكردية وحتى حين تقترف بعض الآثام المطلوبة في مجرى العمل. لذلك هي سارعت إلى التقاط الذبذبات لحزب العمال الكردي في تركيا، منذ عام 2013 حين تم وقف إطلاق النار بين الحزب والحكومة التركية. وانسحبت قواته إلى منطقة "جبل قنديل" في الشمال الشرقي من العراق. لكن الاتفاقية انهارت في عام 2015 عملياً وبعد صعود "داعش" العسكري في الموصل والأنبار. في هذه الحال نجحت أميركا في حياكة علاقات تبغي بلورتها إلى حال استراتيجية مع اشتداد المعارك ضد داعش ومن أجل بناء قواعد عسكرية صديقة لها.

تحت هذه الخيمة الفضفاضة طوّر حزب العمال تكتيكاته وبالانسجام مع التحوّل السياسي لمؤسّس الحزب "عبد الله أوجلان" في الزنزانة التركية. إن الارتكاسة الأوجلانية عن الفكر المُعادي للامبريالية والصهيونية كان ثمنه في التمدّد الديموغرافي "غير الكردي"، ومحاولات مستحيلة في زجّ القوى الاجتماعية هناك في أتون حروب مُتنقّلة. ولم يكن شعاره الجديد الاهتمام بتحقيق حلم  "الدولة الكردية" وإنما أصبح يدعو إلى كونفدرالية واسعة لكل الأقليات في المنطقة والتي تعاني كما يروّج من بطش وسطوة "الدولة القومية" في تركيا وإيران والعراق وسوريا. وإذا كانت قيادته في جبل قنديل هي مركز عملياته العسكرية فقد اتخذ من عدّة مناطق في شمال العراق ميداناً لتجاربه السياسية الكونفدرالية التقسيمية، ولا سيما في منطقة "سنجار" الحدودية مع سوريا وهي تضمّ فيضاً سكانياً من الأقلية اليزيدية والتي تتنازعها تيارات متعدّدة أثنية ودينية وطائفية. وكان الحزب ناجحاً في القضاء على داعش في تلك المناطق وفي إجبار القوات البارزانية الانسحاب منها. وتصاعد بعد ذلك طموحه السياسي في الإسراع وبمباركة أميركية في تشكيل حزب سياسي يزيدي في سنجار، "حزب الحرية والديمقراطية اليزيدي"، وساعدته المفوضية العليا للانتخابات في الاعتراف بالحزب وإدخاله إلى البرلمان العراقي، باعتباره يمثل الأقلية اليزيدية وخارج الإطار الكردي. ويمكن القول الآن أن مقرّ الحزب في قنديل لم يعد مركزاً سياسياً وعسكرياً وإنما "سنجقا" جديداً يتمتّع بكل مواصفات الاقليم الدستورية. نشر ذلك تقرير مؤسّسة "نقاش" الصادر في 18 كانون الثاني 2018 والذي يشير إلى أن تجربة "اقليم قنديل" هي عبارة عن إدارة ذاتية وتختلف عن النموذج البارزاني.

والسؤال الذي لا غنى عنه، هل كُتِبَ على العراق أن يدفع لمدة أكثر من قرن ثمناً باهظاً للوجود الكردي فيه وعلى حساب استقراره السياسي وتنميته الاقتصادية وعلاقاته العضوية مع المحيطين العربي والإسلامي. تحدّثنا أوراق الشاي في مذكرات السياسي العراقي "ناجي شوكة" في الصفحة 391، أنه في حزيران 1940 ذهب مع وزير الخارجية "نوري السعيد" إلى تركيا لمناقشة الوضع في سوريا واقترح عليه الأخير "إنه ينوي أن يقول لرجال تركيا بأن الحكومة العراقية مستعدة لأن تتنازل عن المنطقة الكردية الشمالية لتركيا، إذا هم وافقوا على إلحاق سوريا بالعراق بأي شكل من الأشكال، وأن الحكومة العراقية مستعدّة لأخذ موافقة بريطانية على هذا العمل".