بريق العشوائية

في كل دول العالم يقوم الإرهابي بتفجير نفسه، أو القيام بإطلاق الرصاص على المارة ثم يحاول الهرب، أو يظل يقتل حتى يصاب برصاصة، أما أن يقوم إرهابي بالسير في الطرقات والتجوّل في الشوارع، بينما تمر بجواره امرأة تحمل حقيبة خضروات وتتهادى حتى تُفاجأ به يُطلق الرصاص.

عشوائية مصر ليست كأية عشوائية عرفتها الإنسانية

الشاعر المصري، الذي أتشرّف بأنه والدي، أحمد فؤاد نجم يقول : وساد قانون البتاع... ولا مقري ولا منقول.

أي نعم، ولا مقري ولا منقول.

لم نر في تاريخ البشرية ما يحدث الآن لدينا في مصر من عشوائية ممنهجة. عشوائية مصر ليست كأية عشوائية عرفتها الإنسانية. هي عشوائية متعمدة، مقننة، منظمة، محبوبة، لطيفة، أصبحنا – من طول العشرة – نحبها، ولا نجد أنفسنا إلا فيها.

نراها تعمل بكفاءة وبكامل طاقتها في كل شيء، حتى في التصدّي للإرهاب، بل إن حتى الإرهابيين المصريين لم يسلموا نظام العشوائية الممنهجة.

في كل دول العالم يقوم الإرهابي بتفجير نفسه، أو القيام بإطلاق الرصاص على المارة ثم يحاول الهرب، أو يظل يقتل حتى يصاب برصاصة، أما أن يقوم إرهابي بالسير في الطرقات والتجوّل في الشوارع، بينما تمر بجواره امرأة تحمل حقيبة خضروات وتتهادى حتى تُفاجأ به يُطلق الرصاص، فتقف خلف سيارة، وكأنه، أعزكم الله، يقضي حاجته في الطريق العام فخشيت على ملابسها من الاتساخ، ثم تمر بجوار الإرهابي سيارة، فتجد محلاً للوقوف في هذا الشارع المزدحم بجوار الإرهابي، فيقرر سائق السيارة ألا يفوّت فرصة العثور على محل لوقوف سيارته، فيترك سيارته تماماً في مكان ملاصق للإرهابي الذي بدا إما بائساً أو متعاطياً لعقار غيبه تماماً عن وعيه، ثم يقف أمام سائق توك توك، فيحيد سائق التوك توك جانباً، ثم نعلم بعد ذلك أن السائق ذهب ليترك التوك توك في مكان آمن ثم يعود ليشاهد الإرهابي بنفسه، كل ذلك والإرهابي يتجوّل في الطريق، والناس تصوّره عبر هواتفها النقالة من النوافذ، مع خلفية موسيقية لصراخ النساء: حاسب ليشوفك.. فيجيبها الرجل: على فكرة صويتك ده ولا له أي لازمة.

ولا له أي لازمة؟

إرهابي على فكرة... الناس عادة تصرخ حين ترى إرهابياً!

بعد أن ألقى الناس القبض على الإرهابي، ظهرت فجأة الشرطة التي رفعت سلاحها، وياللعجب، على الجمهور الذي أوقع بالإرهابي كي تفرّقه عن الإرهابي المُسجّى على الأرض ليتمكنوا من القبض عليه!

هذا المشهد العبثي يلخّص حياتنا في مصر تماماً، مشهد يدرس في الجامعات والمعاهد ليروي حقبة من تاريخ مصر.

الحديث عن هذا العبث ليس هو موضوعي. وإنما موضوعي هو الانتخابات الرئاسية.

أرأيت كيف كان مشهد العملية الإرهابية؟ هكذا المشهد في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية.

يعلن شخص من المؤسسة العسكرية ترشّحه فيُقبض عليه، ويُحكم عليه بالسجن ست سنوات، لإنه ترشّح بالبزّة العسكرية، وحين علق الرجل باندهاش: ألم يترشّح السيّد الرئيس عبد الفتاح السيسي ببزّته العسكرية؟ كان الرد على السؤال بإن من طرحه خائن للوطنّ!

يعلن المرشّح السابق أحمد شفيق ترشّحه من دولة الإمارات العربية، ثم يعود إلى مصر في ظروف غامضة، وينزل في فندق معلناً أنه غير محتجز، ولكنه في انتظار تنظيف بيته "لإنها مقفولة بقالها فترة ومكمكمة"! وبعد أن أعلن ترشّحه، يقول بأنه سيعيد التفكير في مسألة الترشّح بعد دراسة الوضع، ثم يخرج علينا ببيان يقول فيه بأن القيادة السياسية ممتازة ولا حاجة لترشحه!

منذ فترة طويلة والناس تطرح اسم المحامي الحقوقي خالد علي كبديل، فما كان من الدولة إلا أن حاكمته بتهمة ارتكاب فعل فاضح في الطريق العام، على إثر صورة نشرت له تصوّره وهو يرفع إصبعه الوسطى بعد صدور الحكم بمصرية الجزيرتين تيران وصنافير. لا أحد يعلم إن كانت الصورة حقيقية أم مزيّفة، لكنني اندهش من أن إشارة بإصبع تعتبر فعلاً فاضحاً، بينما بيع جزيرتين لدولة أجنبية، وكانت أعلى هيئة قضائية في مصر قد حكمت بمصريتهما، لا يعتبر فعلاً فاضحاً، ولا خادشاً، ولا خائناً، بل إن من يعترض على بيع الجزيرتين هو الخائن!

توقعنا، وفقاً للنسق، أن يتم الحكم على خالد علي بالسجن أو الغرامة، لإثبات تهمة الفعل الفاضح عليه، ما يمنعه من الترشّح وفقاً للدستور، وكفى الله المؤمنين القتال، لكن هذا النسق لا يعمل في مصر، نحن نعمل بنسق العشوائية الممنهجة، فتم تأجيل الحكم في القضية، لتاريخ 7 مارس وهو يعقب وقت الترشّح للانتخابات الرئاسية.

فتوقعنا أن الدولة مرحّبة بترشّح خالد علي، على اعتبار أنه سيكون صورة مكملة لتمثيلية الانتخابات

لكن العشوائية الممنهجة مازالت تطاردنا.

دائماً تحب الدولة مخالفة توقّعاتنا، وهو ما يدعونا للتأمّل والتعجّب والإعجاب، حقاً، إنه فيلم مثير ومشوّق ومُتقن، السيناريست الفاشل فقط هو من يطابق توقّعات المشاهد، أما صانع الفيلم الناجح هو من يفاجئ المشاهد دوماً.

الحقيقة، وبعد أن استقر في أذهان الناس أن الدولة لن تمنح الفرصة للترشّح أمام الرئيس السيسي سوى لخالد علي، فاجأتنا بإنها لن تمنح الفرصة لأحد البتة عقب إعلان الجدول الزمني للانتخابات، ولست متأكدة من أن الرئيس السيسي ذاته يمكنه أن يلحق بركب هذا الجدول متسارع الوتيرة.

فقد أعلنت اللجنة العليا للانتخابات في يوم 8 ك2/ يناير عن فتح باب الترشّح في يوم 20 يناير، وإعلان القائمة النهائية في يوم 24 فبراير، والبدء في إجراء الانتخابات خارج مصر في يوم 16 مارس، وبدء العملية الانتخابية داخل مصر في يوم 26 مارس، لتستمر لمدة ثلاثة أيام، 26، 27، 28، والانتهاء من فرز الأصوات يوم 29آذار/ مارس، وإعلان نتيجة الجولة الأولى يوم 2 إبريل، وإجراء إعادة الانتخابات – إذا احتاجت لإعادة بالأساس – يوم 19 نيسان/ إبريل ولمدة ثلاثة أيام، بالنسبة للناخبين خارج مصر، أما بالنسبة للناخبين بالداخل فجولة الإعادة تبدأ يوم 24 إبريل لتستمر ثلاثة أيام.

يالا بسرعة كده عشان سايبين المحل مفتوح لوحده والله مش فاضيين.

قد تفهم ما تعنيه هذه التواريخ إذا علمت شروط الترشّح لانتخابات الرئاسة المصرية وهي تسعة شروط شروط1- أن يكون مصريًا من أبوين مصريين.

2- ألا يكون قد حمل أو أي من والديه أو زوجه جنسية دولة أخرى.

3- أن يكون حاصلاً على مؤهل عالٍ

4- أن يكون متمتعًا بحقوقه المدنية والسياسية.

5- ألا يكون قد حُكم عليه فى جناية أو جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة ولو كان قد رد إليه اعتباره.

6- أن يكون قد أدى الخدمة العسكرية أو أعفى منها قانونًا.

7- ألا تقل سنه يوم فتح باب الترشح عن أربعين سنة ميلادية.

8- ألا يكون مصابًا بمرض بدني أو ذهنىي يؤثر على أدائه لمهام رئيس الجمهورية.

9- أن يزكى المرشح على الأقل عشرون عضوًا من أعضاء مجلس النواب، أو أن يؤيده مالا يقل عن 25 ألف مواطن ممن لهم حق الانتخاب فى خمسة عشر محافظة على الأقل، بحد أدنى ألف مؤيد من كل محافظة منها.

إذا قرأت بعناية البند التاسع، ستجد أن أحدا لن يتمكن من تحقيقه في ظرف هذه المدة القصيرة. مطلوب من المرشح، وفي خلال أقل من ثلاثة أسابيع، أن يقنع 20 عضوا من أعضاء مجلس النواب بإن يدعموه في الانتخابات، وهي قدرة فائقة على الإقناع لا تتأتى سوى للرئيس عبد الفتاح السيسي نظرا لما اشتهر به من قوة إقناع، أو أن يتمكن من جمع 25 ألف توكيل من المواطنين المصريين من مختلف المحافظات بحد أدنى 1000 توكيل من كل محافظة، أي أن عليه أن يجوب محافظات مصر، ويجلس مع كبراء العوائل والقبائل والعمد، ويقنعهم بإنه مستحق للترشح، فيقوم هؤلاء الكبراء بإرسال ذويهم إلى الشهر العقاري لتوكيل هذا المرشح، مما يعني أن المرشح عليه أن يجوب على الأقل 25 محافظة مصرية بنفسه، وعبر أعضاء حملته، ويتمكن من إقناع أهالي المحافظات في أقل من عشرة أيام أو أسبوعين على الأكثر، وهي مرة أخرى قدرة هائلة فائقة على الحركة والانتشار والإقناع لا تتوفر سوى في الرئيس عبد الفتاح السيسي، لما عرف عنه من سرعة إنجاز.

السؤال الذي يطرح نفسه، والذي يجول بخواطرنا جميعاً، هل حقاً سيواجه الرئيس السيسي العالم بانتخابات رئاسية ليس فيها مرشح سواه؟

فعلا؟

حقا؟

عنجد؟

طيب