العراق المحتل أميركياً واشتقاقات إمارة الاستيلاء تحت الأرض

إن السلوك اليومي للاحتلال الأميركي يعاند المنطق الحاسم بضرورة أن يتوّج القضاء على "دويلة" داعش بنهاية وجوده العسكري في العراق، ولكن الإدارة الأميركية تسلك بالعكس من ذلك وتعيد إنتاج كل الظروف الملائمة لبناء داعش ومشتقّاتها من جديد.

أميركا تعيش مأزقين في العراق، والمنطقة، الأول عدم قدرتها على الوجود العسكري وكذلك عدم استطاعتها على الخروج نهائياً من العراق والاقليم

في عام 2002 أصدرت طبيبة الأمراض القلبية " سفيتلانا بروز " ، وهي حفيدة القائد اليوغوسلافي الكبير جوزف تيتو ، كتاباً حول التدخل العسكري الأميركي والناتو في البوسنة والهرسك . " ناس طيّبون في زمن شرير " كان عنوان الدراسة التي فضحت فيها سلوك أميركا في اتجاهين ، الأول تدمير البنى التحتية للمنطقة عن طريق القصف المنهجي ، والثاني شحن النفوس الأهلية ومساعدة المنظمّات الإرهابية الإسلامية التي أرسلتها السعودية ودول الخليج إلى هناك . وتقول بالرغم من كل العنف والتصفيات فالمجتمع تبقى له القوة في الصمود والإنقاذ والاستمرارية والخلود . وإن عملية غسل السموم من عقول الناس مسألة شاقّة وتحتاج إلى وقت وخطط وصبر . أما إذا استمرّت الأمور من دون جدول متكامل فإن التعارض في قوة الأشياء ، كما يحصل حالياً في العراق ، قد يظهر أن السيّىء فيها يبقى على حاله من دون مقاومة ، وأن الخير يضمحل من دون رعاية . إن لاشرعية الاحتلال الأميركي هي التي غرزت فكرة اللاشرعية عند الجميع . وإن ما حصل مؤخراً ومازال لا يساعد أميركا فقط في تحديد " شخصية الأحداث " ضمن إطار العراق ، وإنما يعطي الفائدة القصوى من أجل أن تزيد إدارة " دونالد ترامب " من خيالها الجيوسياسي ، فتهدي القدس إلى الاستعمار الصهيوني ، في التعامل مع الأحداث العارمة . وهذا ما يسمّيه الباحِث في جامعة كارلتون في كندا ، لوك ستركمان ، الجيوسياسية الشعبية والتي تتعامل بقسوة مع الناس وتغطّي على منظمات الإرهاب الوهّابي وتنقذهم وتساعدهم على إعادة بناء تنظيماتهم مرة ثانية . لقد قام " داعش " بالمهمة التي كتبها بالتفصيل المستشار الاسترالي ديفيد كيلكولين  في عام 2006 من أجل محاربة إيران والتي فشلت في تحقيقها " الصحوات " التي شكّلها قائد القوات الأميركية في حينها الجنرال " ديفيد بيترايس " ورهطه العسكري والسياسي ، ومنهم السفير الأميركي السابق " رايان كروكر " والذي ينشط الآن من خلال برنامجه  من أجل إجراء تغيير جذري في العملية السياسية الطوائفية بعد داعش .

من هنا يجب الانتقال من جذور الأزمة، مؤقتاً، إلى هوامشها خدمة للغرض القادم. إن السلوك اليومي للاحتلال الأميركي يعاند المنطق الحاسم بضرورة أن يتوّج القضاء على " دويلة " داعش بنهاية وجوده العسكري في العراق ، ولكن الإدارة الأميركية تسلك بالعكس من ذلك وتعيد إنتاج كل الظروف الملائمة لبناء داعش ومشتقّاتها من جديد. إن تنظيمات " اليوتوبيا الثيوقراطية " في الحقيقة هي حصيلة عاملين: الأول هو الفشل السياسي المتواصل لأميركا في حل الأمور والإصرار على إدارتها فقط ، والثاني الممارسة العسكرية في ترتيب علاقاتها الميدانية مع الدول الخليجية الخزّان الفكري والبشري لمنظمات الإرهاب الوهّابي التكفيري . وهذا ما شرحته الباحثة الأميركية  لورين شولمان ، والتي كانت مستشارة في مجلس الأمن القومي في إدارة باراك أوباما السابقة. إن أميركا تعيش مأزقين في العراق، والمنطقة، الأول عدم قدرتها على الوجود العسكري وكذلك عدم استطاعتها على الخروج نهائياً من العراق والاقليم. والثاني إنها لاتقدر أيضاً أن تنجز العمليات السياسية في مناطق وجودها العسكري من دون التعاون مع قوى إقليمية مهمة ، من نمط تركيا وإيران ، أو قوة عالمية كبرى مثل روسيا . وكذلك هي تفشل على صعيد النتائج ولا تستطيع أن تحقّق ما تريد في التعاون مع هذه القوى . والمعالجة الناجحة من وجهة نظر السوقية السياسية هي إعادة إنتاج نفس الأدوات اليومية للوهّابية المسلّحة . هذا بالضبط ما كتبه الخبير الأميركي في مكافحة الإرهاب الإسلامي " بريان غلين ويليامز " وهو متفرّغ سابق في المخابرات الأميركية . بهذا المعنى فإن عقارب الساعة تعود لتحقّق التطابق المدهش بين السوقية الأميركية وبين البرناج الوهّابي الإرهابي المسلّح والذي ينهل من التاريخين القديم والمعاصر كل مقارباته الفكرية الدينية والسياسية الطوائفية.

بمعنى آخر فإن السلطة السياسية  لداعش بحاجة للقوة السياسية والعسكرية للاحتلال لتحميها من مخاطر بناء الدولة الوطنية التي مرشّحة للقضاء عليهما سويّة . كما أن الاحتلال بدوره بحاجة إلى صك اعتماد من داعش وغيرها وذلك لدعم وجوده العسكري والسياسي . الرصيد واضح ، فهو الاحتدام الاجتماعي والتناقضات بين ما يُسمّى المكوّنات وكذلك الفشل الذريع للعملية السياسية. وفي الحالين تظهر بلا مراء القدرات غير العادية لفقه السلطان القديم . لكن الوضوح الأكثر مدعاة للدهشة هو الصيغ التي طرحها في القرن الرابع الهجري أبو الحسن الماوردي، صاحب الأحكام السلطانية ، والتي هي تعتبر الأساس النظري لهذه العلاقة المركّبة حالياً بين السلطة السياسية للإسلام السياسي المسلّح والاحتلال الخارجي. لقد وضع الماوردي من خلال تشريعه مفهوم " إمارة الاستيلاء "، الشروط الرئيسية لنظام الحُكم العامة وللعلاقة مع الاحتلال بصورة خاصة والتي تحدّد الصلة المباشرة  حالياً بين الاحتلال الأميركي  والحكم المحلي لدولة داعش في المناطق التي استولت عليها.

إن التصريحات الأخيرة للمستشار الأمني القومي في البيت الأبيض هربرت ماكماستر تؤكّد الخطط العدوانية التي تحضّرها أميركا للعراق والمنطقة والتي تتمثّل في استراتيجية جديدة، تستند إلى التصدّي لدول «متحايلة»، مثل كوريا الشمالية وإيران، وقد اتهم روسيا بتخريب السياسات الداخلية لدول المنطقة ومنها سوريا . كما أن  رئيس القيادة المركزية للقوات الأميركية  الجنرال ستيفين فوتيل قد أعلن أن أكثر من 100 ألف مسلّح شيعي ينشطون حالياً في الأراضي العراقية  مشيراً إلى أن هذا الأمر يثير قلقاً كبيراً لا سيما أنهم يحظون بدعم من إيران . 

إن كل المعلومات الغزيرة والتي تُنشر في الصحافة العراقية وتروّج في الفضائيات الخاصة، تؤكّد على بداية نشاطات عسكرية إرهابية جديدة تمارسها تشكيلات منظمة وتديرها من تحت الأرض وبرعاية أميركية  " إمارة الاستيلاء " الوهّابية التي تنفّذ عملياتها من خلال مسمّيات مموهة لذرّ الرماد في العيون وإضفاء نوع من الغموض على ما يدور من خلاف بين اتجاهين ، الأول ضمن الحكومة وخارجها يريد الحفاظ على منجزات الانتصار على داعش ، والثاني أميركي والقوى المتعاونة معه ، ومن ضمنهم القوى الكردية الانفصالية، والتي تستهدف نسف الاستقرار والأمن وتدوير مسلسل الإرهاب المسلح بواجهات جديدة وبأسماء ملفّقة أخرى . في هذا السياق لا يمكن التوقّع أبداً أن تهدأ الأوضاع في البلاد ولاسيما وأن النخب الحاكمة والمعترضة تدرّب أجهزتها السياسية والإعلامية من أجل خوض الانتخابات القادمة في العام المقبل والفوز بحصّة المغانم في السلطة السياسية والموارد الطبيعية، والتعويل مرة أخرى على القوى الأجنبية المُناهِضة للمشروع الوطني في العراق والمنطقة والذي يستند سياسياً وعسكرياً إلى التحالف الضروري والموضوعي لمحور بغداد وسوريا وحزب الله والجمهورية الإسلامية الإيرانية .