تونس على اللائحة السوداء!

وصل حجم المبادلات التونسية - الأوروبية إلى 20 مليار يورو، أي حوالى ضعف الموازنة التونسية تقريباً. وهو يمثل نسبة 63% من حجم المبادلات التونسية على المستوى العالمي. ولذلك اعتُبر القرار الأوروبي على درجة كبيرة من الخطورة بسبب تأثيره المباشر على المالية والاقتصاد في تونس. ليست تهمة الملاذ الضريبي الآمن جديدة، فقد سبق أن وُجِّهت لنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. لكنها تتكرّر اليوم في ظلّ وضع اقتصادي مُهترئ، وفي سياق عالمي مختلف حيث تعيش البلاد ومعها المحيط العربي أوضاعاً كارثية رغم تفاوت قسوتها.

كل الوعود التي أطلقها الاتحاد الأوروبي تجاه تونس أكلها الصدأ، فلم يتم إرجاع الأموال المنهوبة من نظام الرئيس المخلوع المودعة في البنوك الأوروبية

سبع سنوات عِجاف تضاعف خلالها حجم التهرّب الضريبي والمديونية ونسبة البطالة وتوسّع فيها الفقر والفساد والجريمة، توّجها الاتحاد الأوروبي بإعلان تونس ملاذاً ضريبياً آمناً. نزل الخبر، الذين تلقّفته وسائل الإعلام المحلية والدولية، كالصاعقة على الطبقة السياسية والناشطين المدنيين ورجال المال والاستثمار.

يؤكّد الخبر إدراج تونس ضمن اللائحة السوداء الأوروبية التي شملت 17 دولة اعتبرت جَنّة ضريبية في العالم، منها الإمارات والبحرين وكوريا الجنوبية وبنما.. رفضت الحكومة التونسية القرار الأوروبي الذي وافق عليه 28 وزير مالية أوروبياً في اجتماعهم الأخير في بروكسيل بداية ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وقالت "إن تونس ترفض التدخّل في سياستها الجبائية، وهي ليست ملاذاً جبائياً".

السيادة التونسية المُترنِّحة

وصل حجم المبادلات التونسية - الأوروبية إلى 20 مليار يورو، أي حوالى ضعف الموازنة التونسية تقريباً. وهو يمثل نسبة 63% من حجم المبادلات التونسية على المستوى العالمي. ولذلك اعتُبر القرار الأوروبي على درجة كبيرة من الخطورة بسبب تأثيره المباشر على المالية والاقتصاد في تونس. ليست تهمة الملاذ الضريبي الآمن جديدة، فقد سبق أن وُجِّهت لنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. لكنها تتكرّر اليوم في ظلّ وضع اقتصادي مُهترئ، وفي سياق عالمي مختلف حيث تعيش البلاد ومعها المحيط العربي أوضاعاً كارثية رغم تفاوت قسوتها.

لم يكن هذا القرار مقبولاً حتى لدى بعض النُخَب الفكرية والثقافية في تونس. واعتبروه نوعاً من الابتزاز يمارسه الأوروبيون تجاه بلد عربي ومتوسّطي وقّع معهم أول اتفاقية شراكة. ومنهم من وجّه اللّوم إلى فرنسا التي يقيم على أراضيها قرابة المليون تونسي ولديها 1300 شركة تعمل في تونس وتتمتّع بحضور ثقافي كبير. فوزير الاقتصاد والمالية الفرنسي الذي كان حاضراً في اجتماع بروكسل الذي أصدر القرار، برينو لومار، لم يبذل أيّ جهد لمنع صدوره.

سَوّق الأوروبيون في إعلامهم، تونس باعتبارها نموذجاً ناجحاً "للربيع العربي"، يحترم حقوق الإنسان ويمارس تجربة ديمقراطية وتمكّن من تجنّب حرب داخلية ومنع من الانتكاس نحو الديكتاتورية.. غير أنهم يعرفون أكثر من غيرهم أنه لا يوجد من الديمقراطية سوى شكلها الظاهري، وما يوجد هو توافقات سياسية بين الأحزاب الحاكِمة التي تصدّرت المشهد السياسي في ظروف انتخابية غير سويّة. وحتى الحريات، التي لم يغنم التونسيون شيئاً غيرها، لا تزال مهدّدة في ظلّ سيطرة تيّار مُعيّن مدعوم بقوّة من الناحية المالية، المشهد الإعلامي، وأمام الايقافات والمطاردات المستمرة للناشطين على الأرض أو في مواقع التواصل الاجتماعي.

يعترف المراقبون أن التجربة التونسية لا تقود نفسها وإنها تتحرّك في مسار رُسِم لها بدِقّة، طرفاه الفساد والمديونية اللذان أنتجا هشاشة اقتصادية ومالية مخيفة. ومع ذلك، وُجّه اللّوم بشدّة للدبلوماسية التونسية ورئاسة الدولة التي تشرف على وزارة الخارجية. لم تتحرّك الخارجية ووزيرها ببلومبينغ ودبلوماسية ناجعة وفعّالة قبل إصدار القرار لإقناع دول الاتحاد الأوروبي بالتخلّي عن قرارها، وتحذيرها بأن هذا الإجراء سيُعتبر تدخّلاً في سيادة البلد وسيواجه بإجراءات مضادّة.

لم يحدث ذلك. فالسيادة التونسية مترنّحة إن لم تكن غائبة بشكل كبير. والإملاءات لا تكاد تتوقّف. وفي كل مرة تخضع الحكومة لإملاء تتفاجأ بإملاء جديد في سلسلة لا تنتهي حلقاتها، إلى أن أصبح اقتصاد البلد مشلولاً بعد استشراء الفساد والتهريب والإعفاءات الضريبية غير المدروسة وإفلاس المؤسّسات الصناعية والفلاحية وهروب المستثمرين، وباتت الحكومة تعيش على قروض البنوك الدولية التي يعرف الجميع من يملكها وحقيقة الشروط التي تفرضها على المقترضين حيث بلغ حجم المديونية التونسية أكثر 70% من الناتج الوطني الخام.

بات القرار الوطني أمراً صوَرياً، فالتدخل الأجنبي لا يكاد يستثني مجالاً، وهو يشمل الاقتصاد والتعليم والثقافة واللغة والإعلام والخيارات الاستراتيجية.. بل وصل إلى التسميات في الأجهزة القيادية للدولة.

أهداف القرار الأوروبي

طالما اعتبر الأوروبيون تونس حديقة خلفية لهم لابدّ من توجيهها والتحكّم فيها إذا لزم الأمر. فهي مستعمرة فرنسية قديمة متاخمة لأوروبا ولا بد أن تخضع للرقابة. إننا نجد مثلاً قانون 1972، الذي يعفي المؤسّسات الاقتصادية الموجّهة كلياً نحو التصدير ولا يحق لها التعامل مع السوق الداخلية من الضرائب. فكيف تقبل أوروبا بهذا القانون الذي يشرّع للتهرّب الضريبي منذ أكثر من أربعة عقود ولم تتذكّر إلا الآن وجود تهرّب ضريبي من نوع آخر لولا أن ذلك القانون يخدم مصالحهم، ولولا أن وراء القرار غايات أخرى؟

يريد الأوروبيون تحقيق هدفين رئيسيين من قرار وضع تونس ضمن اللائحة السوداء للتهرّب الضريبي، الأول إضعاف الحكومة التونسية في المفاوضات المَنْوي إجراؤها مع الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاق التبادل الحر والشامل، والذي سيعوّض اتفاق الشراكة التونسي الأوروبي لسنة 1995، ليشمل مجالات الزراعة والخدمات التي لم تكن مشمولة بذلك الاتفاق، وهو ما يعني استلحاق الاقتصاد التونسي بالكامل لأوروبا، وتفاقم مشاكل البطالة والتهميش والفقر وصولاً إلى وما يترتّب على ذلك من تهديد للأمن الغذائي التونسي وتداعياته القاتِلة. والهدف الثاني اقتحام المشهد السياسي، بشكل مباشر، استعداداً لانتخابات 2019 التشريعية والرئاسية، من خلال تصعيد فئات حزبية وسياسية ذات توجّهات نيو- ليبرالية موالية لأوروبا من أجل إبعاد القوى الوطنية بمختلف توجّهاتها من اليسار واليمين.

لم يفعل الأوروبيون شيئاً لتونس سوى إغراق اقتصادها. فقد وصل عجز الميزان التجاري التونسي للـ11 شهراً الأولى لسنة 2017 إلى حدود 23,1 مليار دينار مقابل 19,0 مليار في نفس المدة لـسنة 2016.

وكل الوعود التي أطلقها الاتحاد الأوروبي تجاه تونس أكلها الصدأ، فلم يتم إرجاع الأموال المنهوبة من نظام الرئيس المخلوع المودعة في البنوك الأوروبية، ولم يصل الدعم المالي المقدّر بخمسة وعشرين مليار دولار الذي أقرّته قمّة دوفيل في شهر أيار/مايو سنة 2011. وفي المقابل، تواصلت سياسة الإقراض المشروط بإملاءات سياسية واقتصادية وتشريعية مثل الدعوة إلى تشريع المثلية السَّدومية والمساواة في الميراث وتعويم الدينار..

لابد من الإقرار أن الفساد والتهرّب الضريبي في تونس واقع لا يمكن إنكاره، وأن الخضوع للإملاءات الأوروبية تتحمّل الأحزاب والبرلمان والحكومات المتعاقبة مسؤوليته. فهي التي رفضت محاربة الفساد بشكل جدِّي، وهي التي أصرّت على إعفاءات ضريبية على المنتجات المستوردة دمّرت المؤسّسات الاقتصادية الوطنية، وهي التي ترفض استخلاص ديون البنوك المحلية من رجال الأعمال الذين يرفضون سدادها حتى الآن، وهي التي سمحت لنفسها بمديونية خارجية مشروطة تضرب في العمق مصالح الدولة وثقافة الشعب وقِيَمه وترمي به في متاهات الفقر والجريمة والإدمان والانحراف.

إن ما يحدث في تونس، ودول عربية أخرى، منذ سبع سنوات يشبه تماماً اتّفاقية واشنطن لسنة 1990 التي وُضعت للاستحواذ على أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً من أجل فتح أسواقها أمام رأس المال الغربي، والتي تسبّبت، في ظرف عشر سنوات، في وفاة أكثر من 24 مليون شخص نتيجة الإفقار وعدم القدرة على العِلاج والتي أنتجت الجريمة المنظّمة وحكم الأوليغارشيات وتدمير المؤسّسات الصناعية الوطنية في كل هذه البلدان لتحلّ محلّها الشركات الغربية.