بين دونالد ترامب وراشيل كوري

منذ لحظة إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، حضرت في رأسي وبقوّة، راشيل كوري. كوري التي قضت سنة 2003 تحت أنياب جرّافة إسرائيلية، لم تكن في ذلك الوقت تُجابه الجرّافة الإسرائيلية من أجل مجرّد تسمية ترامب لمدينة فلسطينية ما، عاصمة لإسرائيل.

لحظة إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، حضرت في رأسي وبقوّة، راشيل كوري. كوري التي قضت سنة 2003 تحت أنياب جرّافة إسرائيلية، لم تكن في ذلك الوقت تُجابه الجرّافة الإسرائيلية من أجل مجرّد تسمية ترامب لمدينة فلسطينية ما، عاصمة لإسرائيل. راشيل حينها، كانت واعية أشّد الوعي، بفلسطين ذاتها، بحدودها كافّة، بحقّها في الوجود. كوري حين كانت تقضي الساعات الطوال أمام خارطة فلسطين، وهي تتفنّن في التأكيد لنفسها وللعالم الحّر، أنها لا تُمعن في التحديق في خارطة فلسطين وفق المصادفة، بل وفق الحق الذي يجب أن يكون عليه.

عبر التلفزة، ترامب الأصهب يُعلن القدس عاصمة لإسرائيل، بمعنى آخر يُعلن إسرائيل دولة لا سواها على العالم أجمع، وعلى أصحاب الحقوق كافّة. التلفزة هذه نفسها كانت نقلت بالصورة الواضحة، إنقصاف وردة "أميركية" ذهبت في رحلة فواح أزكم أنوف الكثير من الحّكام العرب الذين اعتادوا النتن رائحة .

ثمة فلسطين في ما وراء الحقول المفلوحة بالأجساد السمراء والبيضاء، وثمة فلسطين للسطوع البطيء لجمال وحقّ لا بدّ منهما. تقدّم ترامب إلى الشاشة وأعلن نهاية حقيقية لفكرة فلسطين، فيما تقدّمت يوماً جرّافة مُنتشية بحصد ضحيّتها، قصمت الوردة الأميركية إلى نصفين، مُهدية الكاميرا جمالاً أبيض غير مسبوق. لم تعلم الوردة حينها، التي وقفت بوجه الجرّافة الإسرائيلية، أنها إنما ستنقصف بأمر من ترامب نفسهُ الذي لم تكن قد سمعت به، وبأن أنياب الجرّافة على نحو قريب منها، إنما هي أنياب الرجل الأبيض الذي مزّق بياضها.

بعد قرار ترامب، داهمتني حشرية مراقبة الوجوه في الشارع من دون تمييز في اكتشافاتي التّامة واكتشافاتي الناقصة، سوى أن الثابت من دون شك، ذلك الأسى الجامِع، الضارِب في الوجوه كلها.

لحظة تخرج من بيتك إلى رحاب المدينة، تنهار دعتك كلها، تنهار طمأنينتك التي تكون ربيّتها برموش العين، من هذه الإهانة الطويلة. أجساد تتحرّك بصمت، والمّارة الدينيون والدنيويون في مقارباتهم لقداسات خطرة، زادها قرار ترامب خطورة.

لا أريد أن أكتب في السياسة. لأن الكتابة في فلسطين لا تُوزَن بالسياسة.

الفكرة الآن في وجود فلسطين أو في عدم وجودها وليس في نقل سفارة من بلدة إلى أخرى، والأمر أن ترامب قال كلمته، يبقى على الشعوب وحكّامها قول كلمتها بعيداً عن التأتأة ودوار الفراغ والنسيان والعزلة.

تنافست صورة راشيل كوري مع ترامب، ومع حقيقة أن الشابة الأميركية قضت وفاء لفكرتها عن الحق، ليأتي الرجل الأصهب الأميركي أيضاً، هادِماً تلك الفكرة، ناعِفاً الحق من أساسه، على نحو وحشي، لا إنساني وبموافقة عربية على مستوى "الكبار" ليحّل الفقدان دفعة واحدة.

الفجوة الهائلة الآن، هي بيننا وبين جسد راشيل كوري المُدّمى، بين روحها التي ما عرفت غير الحق، بين مفهومها للعدل ونكرانها للظلم، بين البنت المُداسة باحتقار، مُزالة، مُلغاة، وبين الرجل الأصهب الذي داس بأقدامه كل فكرة عن الحق، وأضاف على موت راشيل وما يُمثّل، موتاً خصباً لا رجعة عنه.

أعود وأقول أنني لا أريد أن أكتب في السياسة، ذلك أن فلسطين لا توزَن بالسياسة لن أتكلم سياسة فالرئيس الأميركي الذي أصدر قراره، يعلم أن أمراً كهذا لا يوزن بالسياسة ويُستحسن ألا يكون له ميزان سوى صورة ترامب نفسه وصورة العالم على ما هو عليه.

الأمر أبعد من السياسة وأخطر، ويُشبهُ محاولة خنق فلسطين بيدين باردتين، خنق البلد الذي قاوَم طويلاً وقد استحال نبوءة وهتافاً. أفكرّ أن الأمر يتعدّى السياسة وأن فيه تلك الفلسطين التي تخلّى عنها أكثر العرب والعالم. فلسطين تحتاج الآن إلى أكثر من الإرادة والمقاومة، وإن حسابات العواقب لم تعد واجبة، إذ ثمة ما نخسرهُ فعلاً، مع ذلك علينا الدفاع عنه. ما بدا أن صبر الفلسطينيين قد حصلوّه بيد، ليس جديراً أن يخسروه بيد أخرى، وسخة وغير ذات كفّ نظيف.

فلسطين التي بقيت بفضل تضحيات أبنائها، وبضمانة عالمية، جاء ترامب أخيراً رافعاً الغطاء عنها، غير عابىء بأيّ صوت مُعارِض، جاهداً إلى ذريعة تُمكّنهُ من إلغائها وفي الأقل تحجيمها والحَجْر عليها.

لعلنا نقول هنا أن ترامب أحسن قراءة الظرف العالمي، ومدى ما وصلهُ التهالك العربي، فبدا غير محترز في إعلانه الخطير بالقدس عاصمة لإسرائيل، فما من أحد سوف يقطع عليه الفرصة لاستغلال هذا الظرف.

لا نضع أوزار القرار على ترامب وحده بالطبع، فالتهاوي العربي، وفقدان الحساسية العالمية، والظرف والوقت بالطبع، يسمح للرجل الأصهب بأخذ قرارات على مثل هذه الخطورة، من دون تقدير أو التفات لأيّ "توّسل" عربي أو أجنبي، بل أن الناطقة باسمه رفضت بعجرفة لامثيل لها أية "نصائح" من أحد بهذا الخصوص.

كان همّ ترامب منذ لحظة تولّيه السلطة، رفع الغطاء العالمي عن الكيان الفلسطيني، ولا نشّك أن بعض القيادات العربية ساعدت على قرار كهذا، ساعدت على الأقل في كمّ  أفواه وإحداث بلبلة عالمية مهدّت لقراره الفظيع فسحة في الزمن والتصرّف استغلهما أحسن استغلال، ووصل معهما إلى أبشع ما يستطيع.

لا نضع أوزار ترامب بالطبع على عاتق تخاذل العالم العربي، لكن هذا الأخير لم يزعج الرئيس الأميركي أو يتجرّأ على وقفه.

لقد وقعت الكارثة التي لا ندري الآن تشابكاتها ومآلاتها. كارثة لن تعود بعدها الأمور أفضل، وسيجد المندّدون ومجالس الأمن ومنظمات حقوق الإنسان وسوى ذلك أنفسهم أمام تحديات إنسانية وأخلاقية مُهلكة.