النأي بالنفس اللبناني

تجتاح لبنان هذه الأيام موجة النأي بالنفس والتي تحدّث بها دولة رئيس الوزراء سعد الحريري مؤخّراً. الإعلام اللبناني بكل أنواعه والسياسيّون والأحزاب والتنظيمات والجمعيات وجمْعٌ غفير من الناس يتداولون حول المُصطلح وانعكاسات تطبيقه على الجبهة الداخلية اللبنانية إذا تم الالتزام به على مستوى مجلس الوزراء. وبالرغم من اهتمام أطراف عديدة به لم أقرأ حتى الآن تعريفاً لبنانياً له، وهو يبقى مفهوماً مُعرَّضاً للكثير من الاجتهادات والتفسيرات.

من المعروف أن قوى "14 آذار" اللبنانية التي يقودها تيار المستقبل كانت هي وفرنسا أول من تدخّل في الأحداث السورية ومنذ بدايتها

المُصطلح ليس جديداً في عالميّ السياسة والاجتماع، لا في لبنان ولا في الدول الأخرى. العديد من السياسيين حاولوا تبنّيه والسير على هديه عبر التاريخ، لكنه لم يصمد في أذهان الناس والمُحلّلين لفترات طويلة لأنه غير عملي وغير منطقي. في لبنان، كان دولة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي هو مَن أشعَل حركة هذا المُصطلح عندما نوّه إلى مصدَرَي الأوكسجين الخاصّين بلبنان وهما سوريا ودول الخليج. كان يخشى ميقاتي على لبنان من إغلاق الحدود مع سوريا فيتعثَّر التنفّس اللبناني، وعلى أبناء لبنان العاملين في دول الخليج فينقطع مصدر الأوكسجين الثاني. وجد أن الصمت أفضل.

هناك تعبيران سياسيان يغزوان الساحة الدولية لا يستعملهما رجال الدولة  وهما النأي بالنفس وبلدي أولاً. بلدي أولاً يغزو الساحة الأميركية بصورة مُكثّفة على الرغم من أن أميركا تقول إنها قائدة العالم، والتعبير لا يتناسب مع التنصيب القيادي الذاتي. المفروض أن القائد للجميع وليس لجماعة مُعيّنة.

لغة، النأي تعني الابتعاد أو التكبّر أو المُفارقة. بالنسبة للابتعاد من الضروري التوضيح في ما إذا كان يعني الانعزال أم مجرّد إقامة علاقات اعتيادية وانتهى. وهل إقامة العلاقات الاعتيادية تعني الابتعاد الفعلي أم الهروب من معالجة قضية مُعيّنة؟ أما التكبّر فله امتداداته الاجتماعية من حيث أن العديد من القادة والأثرياء والمُميّزين بشكل أو بآخر يُخفّفون كثيراً من علاقاتهم مع الناس ويبتعدون عنهم تكبّراً. أما المُفارقة واردة جداً في المجتمع العربي وهي موسومة بعِلم الافتراق العربي ومُدوّنة تفصيلاً.

المفروض أن يشرح النائي بنفسه عمّن هو ينأى، أو عن ماذا ولماذا حتى لا يجرّ على نفسه ما لا يرغب به. هل هو ينأى بنفسه عن قضية، عن حزب، عن دولة، عن جماعة، إلخ .وهل النأي مُحدّد بزمان ومكان مُعيّنين أم هو نأي مفتوح عبْر الزمان والمكان؟ 

وهنا يجب التوضيح أن النأي الانتقائي ليس نأياً حقيقياً لأنه مُنحاز لقضية مُعيّنة ضد أخرى، أو استثناء لأخرى، أو لجهة مُعيّنة. الانتقائية في تطبيق المبدأ انتهاك للمبدأ نفسه، وهي انحياز واضح. أما إذا كان النأي غير انتقائي فإنه لا يمكن تطبيقه لأنه يصبح انعزالاً لا يمكن المحافظة عليه. لا يمكن لدولة أو شخص أو حزب في هذا العالم أن ينعزل أو يُقيم نأياً شاملاً بسبب التداخُل القائم في المصالح والذي يتّسع يوماً بعد يوم. ومًن لا يريد التدخّل في القضايا، ويريد أن يبقى بعيداً عن التجاذبات والتنافُر فإن الهموم والمشاكل والقضايا تأتيه إلى بيته، ولا مفرّ أمامه إلا مواجهتها، وهي تهزمه إن بقي على الرصيف ورفض أن يلعب مع اللاعبين في وسط المسرح. ولهذا نقول إن تبنّي مبدأ النأي بالنفس ليس مبدأ يتمسّك به رجال الدولة. يمكن أن يكون نوعاً من الهَوَس أو الشعور بالمرارة من قِبَل شخص عادي ليس صاحب قرار ولا يقوم بمسؤوليات تجاه آخرين، أما لا يمكن أن يشكّل عنصراً في رؤية رجل دولة حقيقي. رجل الدولة لا يهرب، ويواجه الأمور بشجاعة ورويّة. النأي بالنفس هروب من معالجة الأمور ونفي للذات وتهميش لها. النائي بذاته يترك للآخرين تقرير مصير القضايا، وهو يتحوّل إلى مُجرّد موضوع يقع عليه الفعل. ولهذا هو يحرم نفسه من صناعة الظروف المناسبة لتحقيق تطلّعاته وأهدافه.

في الحال اللبنانية، لو كان هذا المبدأ مبدأ لبنانياً شاملاً، لبقي الاحتلال الصهيوني في قصر بعبدا حتى الآن إلا إذا قرّر الاحتلال الخروج طوعاً، ولبقي الاحتلال الفرنسي الأميركي جاثماً على الأرض اللبنانية. ومن المشروع توجيه سؤال للسيّد الحريري في ما إذا كان سينأى بنفسه عن مزارع شبعا أم لا. وهل أيَّد هو قيام الجيش اللبناني بتحرير جرود القاع من داعش، وقيام حزب الله بتحرير جرود عرسال؟

من المعروف أن قوى "14 آذار" اللبنانية التي يقودها تيار المستقبل كانت هي وفرنسا أول من تدخّل في الأحداث السورية ومنذ بدايتها. فرنسا تزعّمت الحملة الدولية لفرض مناطق حظر الطيران، وقوى "14 آذار" فتحت الأبواب لتهريب المُقاتلين والأسلحة إلى سوريا. هل كان ذلك جائزاً من ناحية النأي بالنفس، ولكنه غير جائز لحزب الله الذي دخل المعركة في سوريا متأخّراً؟ متى يكون النأي بالنفس فضيلة، ومتى يكون خطيئة؟ وهل الازدواجية مقبولة من الناحية السياسية الأخلاقية؟ هناك مَن يقول إنه لا أخلاق في السياسة. هذا كلام مردود لأن السياسات التي لا تدعمها الأخلاق لا تُعمِّر طويلاً.

وهل ينأى السيّد الحريري بنفسه عن القدس والمُقدّسات الإسلامية في فلسطين؟ ينظر الناس إلى السيّد الحريري بأنه رائد أهل السنّة في لبنان، فهل يتنصّل أهل السنّة من مسؤولياتهم تجاه المُقدّسات الإسلامية؟ وهناك انتهاكان قام بهما السيّد الحريري في ظلّ رفع الشعار وهما أنه توجّه من الرياض إلى فرنسا قبل لبنان، وهذا يُناقِض فكرة النأي بالنفس من حيث أن فرنسا ارتكبت الكثير من الجرائم بحق الشعبين اللبناني والسوري وعموم أهل الشام، وخرج من قاعة الاستقبال عندما همّ السفير السوري علي عبد الكريم بالدخول للتهنئة بعيد الاستقلال وانتهك بذلك سياسة النأي بالنفس.

ليت الحريري يتخلّى عن شعار لبنان أولاً لما فيه من أنانية، ومن إثارة لحفيظة من تتعامل معهم الدولة. هذا شعار لا يصلح للتعامل السَلِس مع الدول والمجتمعات، وهو شعار عنصري يُحفّز الآخرين للحرص على مصالحهم ولو على حساب الآخرين ما يشكّل أسباباً لظهور الأزمات والحساسيات.    

قيادة الدول تتطلّب معرفة بالفلسفة السياسية، وإلا فإن القيادات تقود شعوبها إلى الفوضى وربما إلى الهلاك. لقد جرَّب العرب الخراب والدمار بسبب ضعف المعارف لدى المسؤولين، والمفروض أن الحراك العربي قد أفرز عقليات جديدة.