هل التغيير داخل الكُرد أم خارج السنجق؟

من خلال النظر عبر موشور الاستفتاء الذي لم تستقرّ عقابيله إلى حد الآن يبدو أن إطلاق الأحكام حول التصرّفات القادمة للقوى الكردية سيكون أكثر صعوبة من سلوكاتهم السابقة.

المبادرات القائمة من أجل رأب الصدع بين السنجق الكردي وبغداد لم تصل إلى المستوى الذي يمكن التعويل عليه

لأول مرة يقدح أحد قادتهم زناد فكره ويعيد السؤال المركزي بخصوص علاقتهم مع "العراق": هل الكرد ضيوف أم وديعة الدول الكبرى، أم هم حالة جيوسياسية مضافة رغماً عنهم وعن أهل العراق؟ فكما تنتقل الخرافات من جيل إلى آخر عند الشعوب القديمة، فإن أفكار التاريخ السياسي، ومنها الاستفتاء والتقسيم والحرب الأهلية، تنتقل من جيل استعماري إلى آخر. وقد قال منذ الستينات من القرن السابق المؤرِّخ الكردي "جرجيس فتح الله"، توفى عام 2006، بأن الحل الكردي في العراق "سوفياتي" منذ الإعلان عن محتويات اتفاقية "سايكس – بيكو" بعد الانتصار البلشفي في روسيا 1917. إن العلاقة القسرية بين "ديمقراطية "النُظم الحاكِمة في المنطقة والعراق و"حدودها" الجغرافية لم تعد مقنعة لدى قادة هذه البلدان الطامحة نحو الاستقلال التام عن المحور الاستعماري العالمي ومطامعه الاقتصادية وخاصة النفطية .

لكن المبادرات القائمة الآن من أجل رأب الصدع بين السنجق الكردي وبغداد لم تصل إلى المستوى الذي يمكن التعويل عليه من أجل إعادة الاعتبار للعملية السياسية المُنهارة. ذلك لأن الاستحقاقات متبادلة ومن الضروري أن يتوصّل الطرفان في المواجهة، كل منهما ومن خلال تجربته الخاصة، إلى الشكل الملموس لترميم الجسور المُتآكِلة بين "حزبي" الصراع، الاتحاد الشامل أم الانفصال الكامل. ومن هذه الزاوية تنبثق أهمية النقاش داخل الوضع الكردي بطريقة تبدو غير مألوفة وتختلف عن السياق المُتداوَل في تاريخ الكُرد السياسي.

وهذا يعود إلى الطبيعة الخاصة للنُخَب الكردية في تعاملها في الحقل الخاص الملتصق بمشاكلها القومية من جهة وفي العلاقة المُعقَّدة مع "الجوار" العربي من جهة ثانية. والمشكلة الأساسية للحراك الكردي تاريخياً تكمُن بالذات في الشكوك المتبادلة بين الطرفين العربي في العراق وبين القوى الكردية "المنضوية" تحت الإطار العراقي الجغرافي، والغموض الذي ساد هذه العلاقة بالرغم من مزاعم الطرفين وقدراتهم غير العادية في ارتكاب الأخطاء، بل الخطايا، اتجاه الآخر ومن دون التوصّل إلى نتيجة حاسمة .
إن الأسباب عديدة التي أدّت إلى الصراع الداخلي الكردي في العراق ، ولكن الحاسِم هو الطبيعة الخاصة للقيادات من الناحية الاجتماعية ، والمقاربة السياسية التي استخدمتها في طرح قضيتهم المركزية والأسلوب التنظيمي المُتَّبع في تحقيق كل ذلك . ولقد ناقش ذلك "جرجيس فتح الله" ومن خلال معرفته الملموسة في مختلف المستويات القيادية. وهو يؤكِّد على أن حال الحزب الواحد "الديمقراطي الكردستاني" والذي تأسّس في عام 1946، هي التي تتحمَّل مسؤولية كل الخلافات اللاحقة وتأثيراتها على المصير المادي للقضية. ومنذ البداية تشكَّل داخل الحزب خطّان متوازيان ومن الصعوبة أن يلتقيا عند المُنعطفات. الأول التيار العشائري الديني للعائلة البارزانية والسائد في المناطق الشمالية البهدينانية ومركزه أربيل، وطريقته النقشبندية الصوفية . والثاني التيار الذي نما وترعرع في "المدن" السورانية الجنوبية ، ومنها السليمانية وحلبجة، وطريقته القادرية الصوفية والمرتبطة محلياً بالكثير من العوائل ومنها الطالبانية. ومن الطريف أن التركيز كان دائماً على البنية القيادية للحزب وكيفية التعامل بين العناصر القيادية من جهة وزعيم الحزب "الملا مصطفى البارزاني"، وأسلوبه في إحكام قبضته على مراكز النشاط السياسي والعسكري للحزب وجماهيره . وقد كان القيادي "إبراهيم أحمد"، والد زوجة الطالباني وعرَّابه الفكري، يركِّز دائماً على أن العلاقة بين الزعيم والصف القيادي يجب أن تكون حالها مستلهمة من الموضوعة الرومانية الشهيرة والتي تفرض بأن الرئيس هو الأول بين المتساوين في قيادة التنظيم. ويورِد حادثة مؤكَّدة بعد الانشقاق الذي حصل في الحزب عام 1964، كيف أن الملا مصطفى بعث برسالة إلى جلال طالباني يطلب منه التراجُع عن العصيان والرجوع إلى بيت الطاعة، مُنهياً رسالته بالآية القرآنية من سورة "هود": "يا بُنيّ إركب معنا ولا تكُن مع الكافرين" وذلك تمثّلاً بالنبيّ "نوح" وهو يخاطب إبنه أثناء الطوفان .

إن الزعامة الكردية تعاني من نقص في نمو ذاكرتها السياسية على حساب تورّم أوهامها التاريخية التي تكرّرت بفعل فشلها الجغرافي السياسي المُستَدام. إن من لا يتَّعظ من الأحداث يضطرّ أن يُعيدها وبطريقة أسوأ دائماً. لكن بعض القيادات تحاول أن تحرث في الماء وخارج حلبة الصراع الحقيقية. ففي بداية احتلال العراق استقبل مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام‏،‏ برهم صالح رئيس الحكومة المحلية في السليمانية حينذاك والتي يقودها الاتحاد الوطني الطالباني.‏ وقد دار حوار طويل ومُتشابك، ونُشِر يوم10 أيار 2003 في جريدة الأهرام، تحدّث فيه برهم صالح حول مسائل كثيرة وكان أهمّها وأثار دهشة الحاضرين هو قوله بالنصّ: "إن الاتحاد لديه تصوّر سياسي محدّد لعلاقته المستقبلية مع عموم الشعب العراقي وحركاته السياسية تتوّج بسعيه القادم من أجل التحوّل إلى حزب عراقي وطني ديمقراطي وبالتعاون مع العديد من القيادات والكوادر العراقية من أجل برنامج وطني ديمقراطي عراقي موحَّد". إن القيادي "برهم صالح" قد انشقّ عملياً عن الاتحاد الطالباني منذ شهر آب الماضي، وقد نشرت جريدة "الحياة" الأربعاء ، 20 أيلول 2017، كيف أنه كشف موقفه من الاستفتاء وقال في بيان بعد يوم من تسجيله حزباً سياسياً باسم "التحالف من أجل الديمقراطية والعدالة" واستقالته من "الاتحاد الوطني الكردستاني" ، إن "شعب كردستان له الحق في إنشاء دولة مستقلّة خاصة به"، مُستدركاً "نعتقد بأننا في حاجة إلى قرارات عقلانية ومدروسة وتفاوض مع بغداد ودول الجوار والمجتمع الدولي، من أجل أن يتحوّل استقلال كردستان إلى عامل رفاهية للأكراد والمنطقة". فهل يمكن في هذه المعمعة أن يستقرّ القيادي الكردي على صيغة جديدة لم تنل فرصتها الكافية في تاريخ علاقة الكرد بالحياة السياسية العراقية، وتكون محطّة مُتميّزة في حاضرهم المُعقّد ومستقبلهم المجهول. يقول الصحافي الأميركي "جوناثان راندل" في كتابه عن الكرد "أمّة في شقاق" – 1997، بأن قادة الكرد استنفدوا كل تاريخهم الشخصي في شخصَنة تاريخهم السياسي ويصحّ عليهم السؤال الذي طرحه الشاعر "ت . س . إليوت" في قصيدته "المخضرم": التاريخ مليء بالممرّات والدهاليز، وبعد هذه المعرفة؟ ما هي المغفرة!!.