سلاح الجوّ الأميركي ... عودة جديدة إلى سرت

التدخّل الأميركي في ليبيا حتى الآن يبقى محدوداً جداً ومُقتصراً بشكل شبه تام على العمليات الجويّة، ولكن ربما يتطور هذا الموقف ويكون للجيش الأميركي تواجد على الأرض في شكل قاعدة عسكرية أو ربما على شكل مفارز من القوات الخاصة. هذا التطوّر سيكون رهناً بمستقبل التحرّكات العسكرية للجيش الوطني الليبي في الشرق الذي قريباً يُنهي عملياته في هذا النطاق.

لا توجد أسباب واضحة تبرّر العملية العسكرية الأميركية في هذا التوقيت
مثلما كانت المواجهات الجويّة والبحرية التي جرت في خليج سرت بين الولايات المتحدة وليبيا خلال ثمانينات القرن الماضي نقطة تحوّل في العلاقات بين البلدين، تُشكّل أيضاً العملية ثلاثية المراحل التي نفّذها سلاح الجوّ الأميركي في أجواء سرت بداية من أواخر الشهر الماضي حدثاً مهماً على المستوي الإستراتيجي لأنها حسمت الخيارات الأميركية في ليبيا، والتي تميل الآن بشدّة لصالح حكومة الوفاق الوطني في طرابلس والقوات الموالية لها في مصراتة، والتي أطلقت في أيار/مايو الماضي عملية عسكرية تحت إسم "البنيان المرصوص" للسيطرة على مدينة سرت وإنهاء وجود تنظيم داعش فيها وقطع الطريق في نفس الوقت على قوات الجيش الوطني الليبي التي كانت قد أطلقت عملية عسكرية لمهاجمة سرت تحت إسم "القرضابية2". فما هو الهدف الحقيقي من التدخّل الأميركي في هذا التوقيت وهل سيفتح هذا التدخّل الباب لتدخّلات ميدانية إقليمية ودولية في ليبيا؟


"سلاحا" الجو في ليبيا

تواجه القوة الجوية التابعة للقوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني "وهي القوات التي اصطُلح على تسميتها سابقاً باسم "فجر ليبيا" مُشكلات كبيرة أهمّها النقص في قِطَع الغيار والطيّارين على حد سواء، فقد اعتمدت منذ عام 2014 على شركات أوكرانية وأردنية لتقديم الدعم الفني وإجراء عمليات التأهيل لما في حوزتها من طائرات ولتوفير طيّارين مُتعاقدين من خارج ليبيا لتشغيل بعض هذه الطائرات، تناقصت كميات قِطَع الغيار المتوافرة لهذه القوّة التي تتمركز بشكل رئيسي في مطاري مصراتة ومعتيقة بعد سيطرة الجيش الوطني الليبي على قاعدة الوطية الجويّة التي تحتوي على الجزء اﻷكبر من مخزونات قِطَع الغيار الخاصة بها. على مستوى الطائرات لم يعد في حوزة هذه القوّة إﻻ عدد محدود من طائرات التدريب المتقدّم التشيكية "ال-39 الباتروس" واليوغسلافية "J-21" و"G-21" وقاذفتين من نوع "Mig-23MLD"  بعد أن فقدت خلال هذا العام مقاتلتين من نوع "ميراج – اف1" ومقاتلة من نوع "Mig-25" أعيدت للخدمة في وقت سابق بمساعدة من شركة أوكرانية.

هذه الظروف أثّرت علي أية إمكانية لتقديم دعم جوّي فعاّل للمجهود الأرضي لقوات عملية "البنيان المرصوص" خصوصاً بعد تمكّن عناصر داعش من إسقاط طائرتين أحداهما من نوع "ميراج أف1" والأخرى من نوع "ال-39 الباتروس" كان على متنها قائد القوّة الجويّة التابعة لحكومة الوفاق. هذا الوضع دفع بنائب رئيس الحكومة لطلب تزويد حكومته بقِطَع الغيار وطائرات جديدة ورفع حظر تصدير الأسلحة لليبيا وهو الحظر الذي بدأ منذ شباط/فبراير 2011 بإصدار القرار رقم 1970 والقرارين اللاحقين رقمي 2009 و2095 اللذين سمحا باستثناءات.

أما في ما يتعلّق بسلاح الجوّ التابع للجيش الوطني الليبي فتبدو الظروف بالنسبة له في حال أفضل، فمنذ عام 2014 وحتى الآن يتلقّى دعماً تسليحياً ولوجيستياً من مصر والإمارات المتحدة تناولناه في مقالة سابقة. هذا الدعم بدأ في التصاعد منذ أوائل هذا العام حيث تخرّج مؤخراً من الكليّة الجويّة المصرية عدد من الطيّارين الليبيين الجُدد من الممكن أن يعملوا على متن المُقاتلات فرنسية الصنع "Mirage-5" التي تمتلكها مصر وقامت بتحديثها ويتوقّع أن تزوّد القوّة الجوية الليبية بأعداد منها. كما يتوقّع أيضاً أن تصل إلى حوزة الجيش الليبي طائرات إضافية من نوع "AT-802" أميركية الصُنع تمتلك منها الإمارات العربية عشر طائرات ظهرت واحدة منها مؤخراً في إحدى المطارات الليبية وهي طائرات مُخصّصة للأعمال الزراعية لكنها قادرة على حمل قنابل وذخائر. سلاح الجوّ الليبي في هذه المرحلة يركّز عمليّاته على الجزء الغربي من بنغازي بجانب أجزاء من درنة، وهو حالياً في خِضمّ عملية كبيرة لإعادة تأهيل عدد من الطائرات الموجودة لديه في قاعدة الوطية الجويّة بعد أن خسر خلال الشهور الماضية ثلاث طائرات من نوع "MIG-23". تُركّز قيادة سلاح الجوّ على تنفيذ طلعات قتالية إنطلاقاً من مطاراتها الرئيسية "بنينا – الأبرق – طبرق" على مدينتي درنة وبنغازي اللتين تشهدان التواجد الأخير لتنظيم داعش في الشرق الليبي.

طبيعة الغارات الأميركية على سرت

حسب ما أعلنت عنه قيادة القوات الأميركية في أفريقيا "أفريكوم" فإن الغارات الأخيرة على سرت كانت جزءاً من خطّة ثلاثية المراحل لمواجهة تنظيم داعش في ليبيا، المرحلة الأولى تم فيها تنفيذ طلعات استطلاع لجمع المعلومات الإستخبارية والتنصّت على الإتصالات ، وفيها تم استخدام عدّة أنواع من طائرات الإستطلاع مثل "EO-5C" و"EP-3E" والطائرات من دون طياّر "RQ-20 PUMA". المرحلة الثانية من الخطّة كانت تستهدف تحديد إحداثيات الأهداف المطلوب تدميرها وأيضاً تحديث المعلومات حول الوضع الميداني على الأرض. بدأت المرحلة الثالثة في الأول من الشهر الجاري بغارات نفّذتها مروحيّتان مقاتلتان من نوع "AH-1W" وطائرة من دون طيّار من نوع "MQ-9 REAPER" استهدفت بصواريخ مُضادّة للدروع دبّابات وشاحنات تابعة لتنظيم داعش . شاركت في هذه الغارة والغارات التي تلتها عدّة طائرات مُراقبة منها طائرة "EP-3" و ثلاث طائرات للنقل والدعم من نوع "VM-22" ومروحيّات النقل من نوع "CH-53". تنطلق هذه الطائرات من على متن سفينة الهجوم البرمائية "USS WASP" التي انتقلت من منطقة تمركزها في قاعدة "سيغونيلا" في إيطاليا إلى قُبالة السواحل الليبية أواخر الشهر الماضي ونفّذت حتى نهاية الشهر مناورات تدريبية استعداداً لبدء المهام الجويّة القتالية. حتى السادس عشر من الشهر الحالي بلغ عدد الغارات الجويّة التي نفّذتها الطائرات الأميركية على سرت 57 غارة استهدفت في الجزء الأكبر منها سيارات وتجمّعات تابعة لداعش قرب الساحل.

الوضع الميداني على الأرض

حتى الآن لا توجد أسباب واضحة تبرّر العملية العسكرية الأميركية في هذا التوقيت خصوصاً وأن قوات عملية "البنيان المرصوص" فعلياً حقّقت تقدماً في اتجاه سرت قبل بدء هذه العملية، رئيس حكومة الوفاق صرّح منذ أيام أن الضَرَبات الجويّة الأميركية جاءت بطلب من حكومته وتتم بالتنسيق معها وهي ضربات محدودة التوقيت والأهداف. ولكن إذا وضعنا في الاعتبار توقيت التحرّك العسكري من مصراته في اتجاه سرت والذي لم يبدأ إلا بعد أن بدأت قوات الجيش الوطني في التحشّد في راس لانوف لدخول سرت نجد إن التدخّل الأميركي هو أقرب ما يكون إلى "تحجيم" لدور الجيش الليبي وقيادته لمنعها من أية محاولة للتقدّم في اتجاه مصراتة وطرابلس مستقبلاً وهي المحاولة التي تبدو منطقية في الظروف الميدانية الحالية.

 الجيش الوطني يسيطر على الشريط الساحلي بداية من طبرق شرقاً وصولاً إلى راس لانوف ويقترب من إكمال المرحلة الأخيرة من عملية "البركان" العسكرية للسيطرة على درنة بعد أن توقّفت فترة بسبب محاولات قبلية تمّت في المرحلة السابقة لإخراج قوات "مجلس شورى مجاهدي درنة" منها. يواجه الجيش الوطني مُعضلة في منطقة المُثلث النفطي التي تتواجد قواتها فيها حيث عاد الخلاف بينه وبين قوات "حرس المنشآت" التي ترفض دخول قوات الجيش إلى الموانئ النفطية وعلى رأسها ميناء الزويتينة بعد أن اتفّق حرس المنشآت مع حكومة الوفاق الوطني على استكمال تصدير النفط من هذه الموانئ. أما في ما يتعلّق بالقوات الموالية لحكومة الوفاق فإنها تسيطر على الأجزاء الجنوبية والغربية من سرت وصولاً إلى الزنتان في أقصي الغرب مروراً بمصراتة وطرابلس بالإضافة إلى مدينة سبها في الجنوب، وتواجه جيوباً لتنظيم داعش في مناطق عديدة داخل صبراتة وبني وليد وعلى خط الحدود مع تونس بجانب اضطرابات داخلية في طرابلس كان آخرها سيطرة كتيبة ثوّار طرابلس على مقرّ للإستخبارات العامّة في حي الفرناج.

التدخّل الأميركي في ليبيا حتى الآن يبقى محدوداً جداً ومُقتصراً بشكل شبه تام على العمليات الجويّة، ولكن ربما هذا الموقف يتطوّر ويكون للجيش الأميركي تواجد على الأرض ربما في شكل قاعدة عسكرية أو على شكل مفارز من القوات الخاصة. هذا التطوّر سيكون رهناً بمستقبل التحرّكات العسكرية للجيش الوطني الليبي في الشرق الذي قريباً يُنهي عملياته في هذا النطاق، ويجد نفسه مضطراً إما للتوقّف والإكتفاء بالقطاع الذي سيطر عليه أو للتقدّم في اتجاه الغرب لتبدأ مواجهة عسكرية كبيرة ستتواجه فيها دول تدعم الجيش الوطني مثل الإمارات العربية ومصر وفرنسا مع دول تدعم قوات حكومة الوفاق مثل إيطاليا والولايات المتحدة وتركيا وقطر.