سقى الله أيام عدم الانحياز

القمة الحالية لدول عدم الانحياز تُعقد في كاراكاس بين 13 و18 من الشهر الحالي، في ظروف مريرة تخيّم على فنزويلا لدرجة أن وزير الخارجية الإيراني وعد في جولته اللاتينية بمساعدة تسمح بتنظيم لائق. ولا تقتصر الأزمات الاقتصادية الخانقة على فنزويلا، إنما تتعداها لتشمل بلداناً لاتينية أخرى تعود إليها الولايات المتحدة على حصان أبيض كالحصار الاقتصادي والانقلابات الديمقراطية، بعدما فات أوان الانقلابات العسكرية وميليشيات تجارة المخدرات.

القمة الحالية لدول عدم الانحياز تُعقد في كاراكاس بين 13 و18 من الشهر الحالي.
في الارجنتين ثاني أقوى اقتصاد في أميركا اللاتينية، احترمت مرشحة الحزب البيروني من يسار الوسط، دستور البلاد الذي يحرم الترشح لفترة رئاسية ثالثة، لكن الادارة الاميركية لم تحترم دستور الارجنتين في عدم التدخل في هذه الانتخابات، بل دعمت المرشح المحافظ ورئيس بلدية العاصمة بوينس آيريس "موريسيو ماكري". كما دعمت حملات اليمين ضد سياسة الرئيسة كريستينا دي كيرشيز الخارجية في الانفتاح على دول الجنوب.

وفي الحملات الدائمة ضد السياسة الاقتصادية التي أنقذت الارجنتين من الافلاس وحمت الاستقرار الامني والاجتماعي في الرقابة على الأسعار وفي زيادة الأجور والضمانات الاجتماعية. ولم تمضِ أكثر من سنة على وعود الرئيس الجديد بالازدهار بناء على وصفات البنك الدولي ومؤسسات التجارة الحرة الاميركية، حتى دخلت الارجنتين من جديد في دوامة تحرير الأسعار والتسريح من العمل وغيرهما مما يؤذن باضرابات اجتماعية وسياسية بحسب دراسات مراكز الأبحاث الغربية ولا سيما المتخصص كريستوف فانتورا.البرازيل أكثر نتوءاً في الانقلابات الديمقراطية الاميركية التي أدت إلى عزل الرئيسة ديلما روسيف بتهمة الفساد. فالرئيسة البرازيلية متهمة بالتلاعب بالارقام أثناء ترشحها لفترة انتخابية ثانية، وهي تهمة تنطبق على غالبية الدول الموصوفة بالديمقراطية ابتداء من الادارة الاميركية والبنوك المركزية التي تنقل أرقام الحسابات الحكومية من وزارة إلى أخرى بحسب الظرف السياسي ويؤخذ هذا الاجراء على أنه أسباب مصلحة عليا في الاقتصاد الوطني وما شابه. 

لكن السيف الذي أطاح برأس روسيف سبق العزل بسنوات طويلة حين نظّمت الادارة الاميركية حملات متلاحقة ضد  الرئيس لولا داسيلفا بناء على قيّم منظومة التجارة الحرة وتشجيع الرساميل الآجنبية والانفتاح على السوق الدولية. وقد أدت هذا الحملات التي هدّدت البرازيل بانقسام سياسي حاد إلى تراجع حزب العمال عن تحالفاته السياسية مع نقابات المزارعين والسكان الأصليين (بدون أرض)، لمصلحة تحالف مع الليبراليين والمحافظين الذين انقلبوا على حزب العمال ما أن تراجع تأييد الفئات التي أوصلته إلى الحكم.الإدارة الأميركية التي تخوض مع الدول الغربية الأخرى حروبها العسكرية بالوكالة لتدمير ما يتيسر لها من دول العالم الثالث، تخوض حروباً اقتصادية وثقافية قد تكون أشد قساوة في قضائها على إرث دول عدم الانحياز ومحاولة الاستقلال السياسي والاقتصادي. 
فحين ولدت منظمة دول عدم الانحياز في مؤتمر باندونغ في أندونيسيا عام 1955، أخذت مبادئها العشرة بالسعي إلى سيادة الدول واستقلالها ومبدأ المساواة بين جميع الأجناس البشرية والدول الصغيرة والكبيرة.
 
وقد تصدّر هذه المساعي دول كبيرة بوزن الهند وأندونيسيا ويوغسلافيا الموحّدة بقيادة وطنية أمثال جمال عبد الناصر وأحمد سوكارنو وجواهر لال نهرو وهو المجرى الذي دفع بهذه الدول إلى صراع لاستكمال تصفية الاستعمار وحق المقاومة في مواجهة الاحتلال. لكن هذه الأسس المؤسسة انزلقت تدريجياً تحت تأثير المؤسسات الاميركية والغربية نحو ثقافة الصراع الداخلي على السلطة بين الأعراق والطوائف، كما تمزقت يوغوسلافيا الموحدة. ونحو ثقافة السوق والتجارة الحرة والتبعية للسوق الدولية، كما تنهار معظم دول العالم الثالث وبعض دول أوروبا الشرقية والجنوبية.

مجموعة قليلة من الدول تحاول وقف الانهيار العظيم أو تحييد نفسها ما أمكن عن موجات "تسونامي" في السعي لإحياء حوار جنوب ــ جنوب، وفق محاولات هوغو تشافيز، وفي السعي لتعزيز التبادل والتضامن بحسب نتائج جولة محمد ظريف الأخيرة في دول القارة اللاتينية.

لكن الدول العظمى تحرص بدورها على محاربة هذه المساعي والمحاولات بالعقوبات وبالحصار الاقتصادي وفي حروب بالوكالة وفي حروب ثقافة السوق الحرة. ففي قمة العشرين في "هانغتشو" الصينية تعهّدت القمة برغم مشاكل الكون ومآسي الحروب، بتصميمها على لسان مديرة البنك الدولي "كريستين لاغارد" على محاربة الهجمات الشعبوية على العولمة عبر المزيد من تعزيز شأن السوق الحرة العالمية. يقول الإمام الشافعي في مثل هذا الصدد: وليس الذئب يأكل لحم ذئب، ويأكل بعضنا بعض عيانا.