المُطاردَة

هل يمكن أن تفسّر الحملة الإعلامية التي بُنيَت على حادث جرمي عادي تم التلاعُب به ليصبح عملاً إرهابياً، في إطار سعي فرنسا إلى حجز مكان لها في حملة مكافحة الإرهاب، للحصول على حصّة من الجبنة السورية،

المُطاردَة بدأت منذ الفجر، حيث تعرّف إلى زيد بلقاسم حاجز شرطة في فال دواز
ربما لم تكن مُطاردَة بين الشرطة الفرنسية وزيد بن بلقاسم، بقدر ما كانت مُطاردَة بين حكومة فرانسوا هولاند ومعارضيها، وبين المُرشّحين على اختلافهم. هذا إذا لم تكن عملية تحوير وتضليل تستهدف أمراً آخر في مناطق الصراع العربية؟

الإعلام الفرنسي بدأ ببثّ الخبر كأي خبر أمني جُرمي، قبل أن تسبقه رويترز إلى القول بأن مسلماً مُتطرّفاً ارتكب عملاً إرهابياً في مطار أورلي. ثم لم تلبث الشاشات أن تحوّلت إلى عروض بوليسية (ذكّرتنا بفيلم الأكشن الشهير الذي نظّمته سلطات نيقولا ساركوزي حول شابين هربا من الشرطة واحترقا في مفاعل كهربائي). إلى أن ظهر مدّعي عام الدولة، بعد ساعات، وأطلق قصة أن الرجل صرخ بالناس: أنا هنا لأقتل باسم الله. وإن الشرطة عثرت في جيبه على علبة سجائر وولاّعة وقرآن، أما في بيته فعلى كوكايين.

زيد بلقاسم شاب فرنسي من أصول مغاربية، يتضمّن ملفه القضائي (ج) تسعة  قيود بقضايا مخدّرات وسرقات بالعنف. ولأجل ذلك كان تحت الرقابة القضائية. كما كان مطلوباً مؤخراً في قضية سرقة. لكنه لم يكن مسجّلاً على ملف أمن الدولة المعروف ب (اس)،( إشارات للوقاية من الأصولية والراديكالية ذات الطابع الإرهابي). 

قتله في مطار أورلي. محطة أخيرة، لكنها لم تكن الأولى فالأحداث والمُطاردَة بدأت منذ الفجر، حيث  تعرّف إليه حاجز شرطة في  فال دواز، وبما أنه مطلوب فقد اصطدم معهم ليتمكّن من الهرب، ما تسبّب بجرح شرطي. قام الرجل بسرقة سيارة وهرب بها إلى فال دو مارن، وهناك رصدته الشرطة أيضاً فحاول أن يسرق سيارة أخرى ويهرب بها، هرب إلى أورلي ولم يكن مسلّحاً لذلك حاول أن يخطف سلاحاً من أحد الجنود، واختبأ في أحد المحلات، فأطلقوا عليه النار وأردوه قتيلاً. ما يُرجّح فرضية أنه كان يحاول الهرب خارج البلاد.

يُسجَّل هنا أن الرجل اتّصل بأبيه وأخيه قائلاً: "لقد ارتكبت حماقة وأطلقت النار على رجال الشرطة"، كما يحصل لأي مطلوب حُشِرَ في الزاوية ويريد الهرب.

قصة عادية جداً لمطلوب يحاول الهرب. لكنها تحوّلت فجأة إلى قضية سياسية إرهابية.  ليُعلن رئيس الجمهورية في بيان رسمي إن "الحذر سيبقى في أعلى مستواه، وإن عملية المطار قد برهنت على فائدتها بتكامل الشرطة والدرك" الذي "حيّا شجاعتهما إزاء مجرم بالغ الخطورة".

 هولاند لا يسعى إلى توظيف هذا الفيلم الجيمسبوندي في سوق الإنتخابات فحسب، بل لإعطاء حكمه كَسرَة من خبز الكرامة والإنجاز يخرج بها من ولايته. ولاية لم تترك له فرصة الترشّح مرة أخرى بعد أن سجّل رقماً قياسياً بين رؤساء الجمهورية الخامسة، في تدني الشعبية، ما جعله  يضطر إلى الوقوف أمام الكاميرات معلناً عجزه عن  جمع اليسار الاشتراكي.

ولذلك جاء صوغ المدّعي العام إخراجاً مناسباً لهذا التهويل. 

غير أن مرشّحي الرئاسة لم يكونوا أقل نِفاقاً في توظيفهم للحادثة. مارين لوبان أسرعت للقول: "حكومتنا تجاوزها الأحداث، مرعوبة، مثل أرنب أمام أضواء سيارة". ليردّ عليها رئيس الوزراء برنار كازونوف : "فيما كان من الممكن أن يحصل حادث خطير في أورلي، اختارت مدام لوبان المبالغة والهجوم.  وعندما تبدو الأمور على مستوى من الخطورة يجب على المسؤولين السياسيين، أكثر من أي وقت آخر، أن يقدّموا برهاناً على احترامهم لأنفسهم". فرانسوا فيون لم يتأخر عن اللحاق بالجوقة التي وجد الآخرون أنفسهم في عِدادها.

على مدى يومين، لم يكن من الممكن لمتابع الإعلام السياسي الفرنسي إلا وأن يشعر بالغضب الذي يتشكّل لدى المهاجرين العرب والمسلمين، الذين يفهمون جيّداً إخراج مسرحية فاشلة تستعمل أي منحرِف منهم كأداة للعبة سياسية قذرة، لا تلبث أن تنعكس عليهم جميعاً، وتدفع الآخرين إلى رفضهم، ما يدفعهم أكثر نحو التطرّف والإحساس بعدم الانتماء. والنتيجة؟ مكاسب فاسدة لزعماء فاسدين، ومحاولة التخلّص من هذا المُنتَج المريض برميه علينا أو بقتله. ولا نقول لسجنه لأن السجن أصبح مدرسة للتطرّف والإرهاب.

من جهة أخرى، لا بدّ لنا نحن من أن نسال: كم ساهم هذا السلوك في خلق الإرهابيين وفتح الباب لهم ليهاجروا إلى سوريا بالمئات أو بالآلاف، وفق اعتراف وتباهي وزير الخارجية ورئيس الوزراء السابقين، إيمانويل فالس ولوران فابيوس؟ وإذا كانت الشرطة والاستخبارات على هذا القدر من التمكّن الذي يُحيّيه فرانسوا هولاند، فمعنى ذلك إنها كانت قادرة على منعهم من مغادرة مطارات فرنسا إلى تركيا؟

في ما هو أبعد من هذا: هل يمكن أن تفسّر الحملة الإعلامية التي بُنيَت على حادث جرمي عادي تم التلاعُب به ليصبح عملاً إرهابياً، في إطار سعي فرنسا إلى حجز مكان لها في حملة مكافحة الإرهاب، للحصول على حصّة من الجبنة السورية، وربما، في ما بعد، الليبية؟ ألم تكن باريس أول من أرسل سفناً حربية إلى الشاطىء الليبي؟ وأول من نقل رجال الوحدات الخاصة الأمنية من ليبيا إلى سوريا؟

ألم يصل الصراع حدّ السِجال العلني، في بداية الأزمة السورية، بين السفير شفالييه ووزير الخارجية آلان جوبيه، بناء على طلب الأخير من السفير تزوير تقاريره حول حقيقة الوضع في سوريا؟