الاحتلال الأميركي في العراق يُناور بـ "المُتنازَع عليها"

الاحتلال الأميركي يرغب في خلق حالة "العاصفة المثالية" في العراق وسوريا من أجل تمرير برامجه المتعدّدة في الاقتصاد السياسي للهيمنة على المنطقة. وأول عناصر هذه العاصفة هي المشاريع السياسية للطوائفية الكردية المستجدّة والبنادق المأجورة لتنظيماتها المسلّحة.

الاحتلال الأميركي يراهن على مسألة "المُتنازَع عليها" ليس من خلال المنظار الكردي فقط وإنما عبر الرؤية الامبريالية الأعمق
في 29 حزيران 2017 نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية مضمون تقرير أعدّه "مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية ويست بوينت العسكرية" يُحذّر من "اليوم الذي يلي القضاء على داعش". ويؤكّد التقرير أن "التحدّي الأكبر من الإطاحة بدولة داعش "ربما يكون إعادة البناء السياسي والاقتصادي راهناً وفي السنوات القادمة. من هنا فإن القرار السيادي "العراقي والسوري"  كان ولا يزال هو الهدف طيلة سنوات الحرب الدموية والمُدمّرة في البلدين. لأن تلازُم المسارين العراقي والسوري بدأ يفرض نفسه على الأجندة الأميركية والعالمية.

ويؤكّد ذلك أيضاً  الخبير البريطاني الكسندر ميركوريس، في موقع "الإسكرا" اليوناني، وكيف أن  مجموعة "المحافظين الجُدد" الذين يتحكّمون فعلاً بمراكز القوى البيروقراطية في أميركا ومخطّطاتهم أيضاً للسيطرة على القرار الاقتصادي في، العراق وسوريا، من خلال برامجهم الامبريالية في عملية إعادة الإعمار.

إن الاستهلاك اليومي في الأخطاء والعثرات والمطبّات وتجاوز البرنامج التاريخي أحيانا لقوى التغيير الوطنية، لا يتناسب فعلياً مع الإمكانيات التي تزوّدنا بها الحياة السياسية في البلاد. وهو يتلاءم مع "الحرب الأهلية" القائمة بين البيت الأبيض من جهة والبنتاغون من جهة أخرى. فالمؤسسة العسكرية الأميركية  ترى غالباً في التدخّل أو التورّط العسكري انجرافاً نحو نفق بلا نهاية فيه استنزاف متواصل للأفراد والأموال، من أجل هدف في الغالب لا يمكن تحقيقه بالقوة العسكرية. والصراع الأميركي في العراق والمنطقة مع القوى الأخرى لا يمكن فهمه إلا من خلال الصراع الداخلي الأميركي، ومن يريد إدارة هذه الملفات وكيف تكون مقارباته. مع ذلك فلا يمكن التعويل على الموقف العام الأميركي في رئاسة "دونالد ترامب" والتي هي نموذجية في تصرّفاتها اليومية، حيث يُسمّيها  أستاذ العسكرية الصيني سن تزو في مؤلّفه «فن الحرب» إنّ «الاستراتيجية من دون تكتيكات هي أبطأ طريق للفوز.. والتكتيكات من دون استراتيجية هى الضجيج قبل الهزيمة».

 

إن الاحتلال الأميركي يرغب في خلق حالة "العاصفة المثالية" في العراق وسوريا من أجل تمرير برامجه المتعدّدة في الاقتصاد السياسي للهيمنة على المنطقة. وأول عناصر هذه العاصفة هي المشاريع السياسية  للطوائفية الكردية المستجدّة والبنادق المأجورة لتنظيماتها المسلّحة.  ولذلك لا يمكن الاطمئنان إلى نوايا الاحتلال الأميركي، والمثال القريب، ذكرته جريدة العالم الجديد – بغداد - السبت 1 تموز 2017، حيث تحرّكت قوة أميركية من "قاعدة عين الأسد (قاعدة القادسية سابقاً)" في الأنبار إلى وادي القذف جنوبي الرطبة في صحراء الأنبار، وقد غيّرت مسارها إلى قضاء النخيب القريب من الحدود العراقية السعودية فتمركزت بالقرب منه، في تعارض مع هدفها المُعلَن وهو قطع إمدادات داعش في جنوب الرطبة، وحماية الطريق الدولي بين العراق والأردن. كل ذلك، من دون عِلم الحكومة في بغداد، وهدفها الخبيث في السيطرة على هذا الشريط لأسباب لوجستية خاصة بها. وقد حذّر وزير الخارجية الروسي "لافروف" من سلوكها هذا في سوريا أيضاً، وطلب منها التوقّف عن "مطاردة الأشباح".

 

ويمكن القول أيضاً إن الاحتلال يراهن على مسألة "المُتنازَع عليها" ليس من خلال المنظار الكردي فقط وإنما عبر الرؤية الامبريالية الأعمق. فقد قال الأكاديمي الأميركي في "اللغة والإنسانيات" في جامعة هارفارد، "هومي بهابها"، إن الاحتلال الأميركي يجهد نفسه من خلال مناوراته السياسية وضغوطه العسكرية على أن تتكوّن سلطات محلية "ديموغرافية" في كل مكان من العراق، بما فيها العاصمة بغداد، من أجل أن يمنع ولادة حكومة الناس المطلوبة. من هنا فإن النزعة الانثروبولوجية للاحتلال كانت منذ البداية تجمع بين ملفين في إطار سياسي عسكري موحّد. الأول الموقع الجيوسياسي للعراق في المنطقة والثاني الموضع السكاني البيوسياسي داخل البلاد. وهذا يتضمّن عملياً العناية بالثالوث التكتوني: الأرض، الموارد الطبيعية للطاقة، والسلطة السياسية والمرتبطة وعلاقتها "بالحل النهائي" للعراق ، والذي ضمن موشوره نكتشف التوازن الدقيق أو المختل بين هذه الأقانيم الثلاثة.

 

ويمكن الاستغراق من دون مبالغة في القول إن الاحتلال في معالجته الواسعة النطاق "للمُتنازَع عليها" يفصل لضرورات التحليل بين عناصرها الأساس من جهة وفي داخلها من الجهة الثانية. فهو في رغبته لتثبيت السلطة السياسية يفصل بينها، عبر هويّتها الفكرية والاجتماعية، وبين الأرض التي تستند عليها. ولكنه في مقاربته للأرض الديموغرافية المُثيرة للسِجال يفصل بينها وبين السلطة السياسية التي ينوي تشييدها. إنه تدمير منهجي للإرادة والنسيج.

 

وقد أشار مؤخراً وبوضوح صارخ "ستيفن هادلي" المستشار الأمني للرئيس جورج بوش الإبن، ورئيس المعهد الأميركي للسلام حالياً: "رجوعاً إلى الصراع الداخلي في كل مكوّن، الصراع على الحدود الداخلية! أو الخارجية ، لا يكفي، ما دامت سلطات المكوّن ضعيفة نتيجة الصراع الداخلي، فما فائدة هذه الحدود؟". لكن خوض عباب هذه التعقيدات هو من اختصاص محلّل سياسي آخر في نفس المعهد هو "سين كين"، إذ يؤكّد في دراسته "للمناطق المُتنازَع عليها" في العراق بأن كل الأطراف، الكردية، تجلس على حدود معرفة ضيّقة للمسؤوليات محدودة في التفكير متورّمة في المصالح، وتحتوي على كميات كبيرة من الإرث المسموم بالكراهية وعدم الثقة.

 

من هنا فإن تيارات هذه المكوّنات "الكردية"، في العراق وسوريا،  تسبح فيها مخيّلات مُتناقضة ومن الصعب من خلال عقولها البلاستيكية المُغلقة أن تجتمع معاً في إطار وطني مادي واحد ومُتماسك. لقد ضاع هؤلاء في متاهة الأولويات الخاصة وكيفية الربط بين "هوية" الأرض أم السكان على المستوى الديموغرافي، أو "هوية" القومية ، التي تحوّلت إلى طائفة، مُستغلّة الحالة التي يُسمّيها مجازاً بمنطقة "سبق السيف العذل". ويمكن الاستنتاج من تشريحه، من دون مغامرة، أن "العناية" الاحتلالية لابدّ من أن تتدخّل في الزمن المُناسب لوضع نقاط مخطّطها على حروف مصالحها في العراق وسوريا معاً.

 

ومنذ عام 2003، قد أصاب العراق  تحول جدّي في المواقع الجديدة لمحتوياته التاريخية والجغرافية، وأن الاستطلاع عملياً قد لا يشمل فقط المضمون الداخلي لهذه المحتويات بل هي الفجوة المادية بين المنظورات المختلفة لمواقع المحتويات التي تغيّرت بعد التدخّل الزلزالي.

أما طبيعة العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة،السلطة السياسية والأرض والموارد، فقد عدّلها الاختلاف العميق وباتت لها ملكية جديدة خاصة مرتبطة مباشرة بالملكية العقارية للامبريالية العالمية، ولم يعد الإطار التاريخي السابق "الدولة الوطنية" والناس والثروة الأهلية، صالحاً لأن يكون هو المؤشّر الحاد والخلاّق والوحيد للبقاء والتطوّر. لقد أطلق ، قبل موته، أحد أعمدة الاحتلال، أحمد الجلبي، صفة مشعّة للعراق الجديد: "إنه محطّة بنزين".

 

واستغلّت" الكردية السياسية " حال التعب والحصار لدى الشعب العربي. وتصرّفت باستهتار فجّ وقلبت الصورة هي بمساعدة الزلزال، مُستخدمة كل ثقافتها السياسية في العلاقات المُتشابكة مع الفكر العنصري الاستعماري والصهيوني أيضاً. ولم تتمكّن القوى العربية من استغلال هذه النتائج وتعمل بإخلاص وتفانٍ من أجل ترسيخ سلطتها المركزية العربية الموحّدة، وكذلك تثبيت الحدود والتخوم، على الأقل ضمن الخط الأزرق الذي فُرض في أثناء العدوان عام 1991.

 

إن الاحتلال وزلزاله من هذه الزاوية ساعد على تغيير المنظار التطبيقي للمشهد في ركنين: الأول انتقال موقع الكردية السياسية من الدرجة الثانية المهمة ولكنها غير الحاسمة إلى الدرجة الأولى والمقرّرة، والثاني عجز هذه الكردية السياسية عن إدارة الظروف الجديدة التي وضعت نفسها فيه وأقسرها الاحتلال عليها، ما جعلها تنهار في كل الميادين العسكرية والاقتصادية والسياسية وبالأساس تحت ضغط نموذجها المشوّه والمُسبق الصنع.

إن الانتصارات الأخيرة على "داعش" ولاسيما في الموصل، قد سلّطت الضوء على الطبيعة العدوانية لهذا النموذج "البارزاني" البشع ، حين لم يدّخر وقتاً ليفضح حقيقة موقفه العميل من خلال مطالبته بالاستفتاء والاستقلال وتقسيم "الموارد" بين سنجقه التابع لأميركا والعراق ، في مقالة نشرها "مسعود البارزاني" في 28 حزيران 2017 في جريدة واشنطن بوست. إضافة إلى ذلك فقد كتبت الباحثة الكردية "سوزان ئاميدي" والمرتبطة مع الحزب البارزاني مقالاً عنوانه  "جاء دور إنهاء نظام إيران بعد إنهاء دور داعش " في موقع الحوار المُتمدّن-العدد: 5569 - 2017 / 7 / 2 ، تقول فيه : "لذا أصبح إنهاء النظام الإيراني أمراً لابدّ منه لإعادة الاستقرار في المنطقة ولإرجاع زمام الأمور في العراق وسوريا ولبنان لأهلها، وكذلك إنهاء دور أياديها الممتدة إلى دول الخليج واليمن وغيرها". في مسرحية الملك لير لوليام شكسبير مقولة شهيرة هي‏:‏ إنها لكارثة العصر عندما يقود المجانين العميان‏. لكن الحياة تجري تعديلاً خاصاً بفضل النزعات العدوانية الأميركية وحينها نستطيع القول في منطقتنا يقود العميان المجانين.