الزواري ضحية التسيّب الأمني العربي

لا يعجز الصهاينة عن ملاحقة أيّ شخص عربي في أية دولة عربية أو تنظيم أو حزب عربي. لقد أثبتوا قدرة متميّزة على متابعة فرائسهم على مدى عقود من وجود دولتهم، ونجحوا في القضاء على مَن صنّفوهم أعداء يعملون من أجل استنهاض الهِمم العربية أو في ميدان مقاومة إسرائيل. هناك مَن نعلم عنهم وقد اغتالتهم إسرائيل، وهناك مَن اغتالتهم إسرائيل ولا نعلم عن ظروف اغتيالهم حتى الآن. وفي المقابل، زمجر العرب وهدّدوا بالانتقام من دون أن تكون لديهم قدرات مُتناسبة مع هدير التهديد.

وأخيراً طالت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الشهيد محمّد الزواري وقتلته في عقر داره بكل يسر وسهولة
 المخابرات الإسرائيليىة تخترق المؤسسات العربية والوزارات والأحزاب والتنظيمات، وتخترق المستشفيات والجامعات ومراكز الأبحاث والمعاهد العلمية والجمعيات الخيرية والمدارس. وهي تتابع الأشخاص (ليس كل شخص) وترصد تحرّكاتهم وأماكن تواجدهم وتفاعلهم وتتعرّف على أصدقائهمن وتوكل لبعض خبرائها متابعة قادة الرأي وتوجّهاتهم الفكرية والاجتماعية ونشاطاتهم الوطنية. فمثلاً فوجئت يوماً أن اتصل بي أحد الأشخاص وهو صاحب مكتبة يطلب مني مقالاً كتبته قبل سنوات والذي لم أعد أحتفظ به.


سألته عن السبب فقال إن باحثاً إسرائيلياً قد طلبه لأنه هو المقال الوحيد لي غير المتوافر لديه. ولديها ما يكفي من العملاء والجواسيس المدرّبين والذين يزوّدونها بالمعلومات الموثوقة. وتحرص إسرائيل على دقّة الإخباريات وتشدّد دائماً على العملاء والخونة ضرورة الالتزام بالدّقة والابتعاد تماماً عن الكيدية والكذب. وهي تعاقب كل من لا يلتزم بمتطلبات التجسّس المهني والصادق والأمين. فهي حريصة كل الحرص على مهنية مخابراتها واحترامها من خلال صدقية التقارير ودقّة المعلومات.


وأخيراً طالت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الشهيد محمّد الزواري وقتلته في عقر داره بكل يسر وسهولة، ولم تجد تونس حتى الآن سوى عبارات ساذجة تؤكد على السيادة الوطنية. على الرغم من أن السيادة الوطنية يتم تأكيدها قبل الحدث بالقول والعمل، وليس بعد الحدث وبعد الاختراق الأمني الخطير الذي حصل. وهذا اختراق يؤشّر إلى ضعف الأجهزة الأمنية التونسية وعدم قدرتها على الدفاع عن الأمن الوطني. هناك تساؤلات كثيرة حول الأمن التونسي تطال أجهزة الأمن نفسها التي يمكن أن يختفي ضمنها عملاء للصهاينة، ويؤشّر أيضاً إلى أجهزة الأمن الفلسطينية في غزّة. كيف تعرّف الصهاينة على إسم الزواري؟ وكيف عرفوا من أين أتى إلى غزّة وكيف؟ وكيف عرفوا أنه ساهم بقوة في تطوير تقنية الطائرات الإلكترونية لدى حماس، وكيف عرفوا أنه غادر غزّة؟ وكيف عرفوا كل تحرّكاته إلى أن وقع ضحية لهم؟ هذه أسئلة تُطرح دائماً بخصوص الجهات العربية المُتسيّبة أمنياً من دون أن نتلقّى إجابات سوى تصريحات نارية جوفاء.

التسيّب الأمني سمة ملازمة للأنظمة العربية وأجهزتها الأمنية ولمختلف التجّمعات العربية بما فيها الجيوش، ولم يشذّ عن هذه القاعدة حتى الآن إلا حزب الله الذي يبذل جهوداً جبارة لتحصين وضعه الأمني. وكم من جواسيس تم اكتشافهم بعد أن أدّوا أعمالهم في خدمة الصهاينة بنجاح. والمشكلة لا تكمن فقط بأجانب تجنّدهم المخابرات الصهيونية لاختراق الأمن العربي، وإنما لدى إسرائيل قدرة هائلة على تجنيد عملاء عرب يعملون في مختلف المؤسسات العربية، وهي تجد أن تجنيد عرب أيسر بكثير من تجنيد أجانب. وإذا كان لنا أن نبحث في أسباب سهولة تجنيد العرب في أجهزة الأمن المُعادية فإن النقاط التالية تشكّل محاور أساسية للنقاش:

العربي يُعاني من ظلم عظيم من قِبَل الحكومات والحكاّم، وهو يشعر دائماً بالغربة عن وطنه بسبب المُلاحقات التي يخضع لها والابتزاز. والعربي يرى فساد المسؤولين كل يوم، وأصبحت لديه قناعة أن بلاده ليست له وإنما لهم. (هم الحكّام وأعوانهم وأفراد حزب السلطة) العربي غريب عن وطنه، والاغتراب قاتل للانتماء والالتزام. وتعلّم العربي عبر الزمن أن أسهل الطُرق للراحة هي الاهتمام بالمصلحة الخاصة فقط  من دون المصلحة العامة. وإذا اقتضت مصلحته الخاصة أن يكون خائناً أو جاسوساً أو عميلاً لعدو فإن في ذلك حكمة. 

حتى أن العربي يشكّ في قياداته التي من المُحتمل أنها تعمل لصالح الأعداء وعلى رأسهم أمريكا وإسرائيل، ولسان حاله يقول إنه إذا كان الرئيس أو الملك خائناً فلماذا أكون أنا وطنياً وأدفع وأولادي وزوجتي الثمن؟ ليذهب الوطن العربي إلى الجحيم ما دامت الحكومات تتآمر على الشعوب.

ألم يُشاهد العربي ملكاً عربياً يهبط بطائرته السمتية في تل أبيب ليُبلّغ رئيسة وزراء إسرائيل بنوايا سوريا ومصر لمهاجمة إسرائيل؟ لكنه لم يُبلّغ عن موعد الهجوم لأنه لم يكن يعرفه. وملك آخر كان يُخصّص غرفة للموساد بجوار قاعة انعقاد القمّة العربية ويزوّدها بأجهزة التنصّت لكي يقف الصهاينة على تفاصيل المداولات؟ الحكّام العرب لهم مصلحة في إسرائيل قوية لأنها تحافظ على كراسيهم، وهي لها مصلحة باستمرار حكمهم لأنها لن تجد أفضل منهم لتخريب الأمّة العربية.

هناك مشكلة في الثقافة العربية والشعور بالهوية الجمْعية. خلفية العرب الاجتماعية والثقافية أنهم قبائل مُتنافسة أو مُتصارعة، وهم بدو رحّل وارتباطهم بالأرض ضعيف. تفكير العربي انصبّ تاريخياً في الكلأ والماء، ولم يكن الوطن غالباً على اهتمامه. كان من السهل على العربي أن يهدم خيمته ويحمل أمتعته على ظهر بعير ويطوف الصحراء بحثاً عما يبقيه وماشيته على قيد الحياة،  وكان الوطن غالباً ظهر الجمل المُتنقّل، ولم تتطوّر فكرة الوطن إلا في المناطق التي كانت تشهد خصباً وماء وعشباً كافياً. وقد ساهمت الطبيعة الصحراوية للأرض العربية بتقليص درجة الاهتمام بالوطن. ولهذا لا يحتلّ الوطن قيمة عُليا في التراث الثقافي والأدبي للعربي، وليس من الصعب عليه أن يقايضه برزق أو مال أو مكاسب خاصة. وعقلية القبيلة ساهمت في تغييب الحرص على الوطن. العقلية القبلية عقلية انتهازية تُغلّب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة إن وجد أصلاً مفهوم للمصلحة العامة. والعقلية القبلية عقلية متحوصلة وعنصرية وتقوم على الكيدية والإيقاع بالأخ ولو كان على يد أجنبي.

أغلب البلدان العربية تعتمد على مساعدات مالية غربية لتسيير أمورها، وبعض الأنظمة لا تستطيع دفع الرواتب آخر الشهر إلا إذا حوّل لها أهل الغرب ما يكفي من معونات. كما أن أنظمة عربية أخرى لا تستطيع الدفاع عن نفسها، وهي تسكن تحت المظلّة الأمنية الغربية بخاصة الأمريكية. فهل للذي يعتمد على الاستعمار صديق إسرائيل المقرّب في الأمور المالية والأمنية   أن يصون وطنه ومواطنيه؟