التخطيط والتوقيت
المنطق السليم يقتضي بأن يكون الكشف عن خطط الأعداء المقدّمة فقط لوضع خطط مقابلة وبالتوقيت السليم الذي يضمن دراسة كل المعطيات وضمان الفوز في الرهان في النتيجة.
تنشغل أقلامنا العربية غالباً وعلى مرّ العقود في تفنيد الخطط التي تستهدفنا وكشف محتوياتها والتسابق لكشف السرّي منها وتحليل ما ظهر منها إلى العلن؛ وكأن المطلوب فقط أن نفضح نوايا الأعداء من دون أن تكون هذه هي الخطوة الأولى التي تقود إلى وضع سيناريوهات مقابلة وخطط تحبط مخططاتهم وتنقذ الأمة من الويلات المدبّرة لها.
ودرجنا جميعاً على هذا السياق. فمنذ وعد بلفور حتى اليوم والنخب الفكرية والسياسية تتحدث عن مؤامرات البريطانيين والفرنسيين بالتعاون مع ثلّة من الصهاينة لاغتصاب فلسطين، ومع زمرة من العثمانيين لسلخ لواء اسكندرون، ثمّ الانخراط مع الأعداء في اتفاقات وجّهت ضربة قاصمة للحق العربي، وآخرها الانسياق منذ كامب ديفيد واتفاق أوسلو وحروب الربيع العربي الإرهابية، وما يتبع ذلك حالياً من تطبيع في مسار استسلامي لا يحفظ كرامة، ولا يسترجع حقوقاً مسلوبة.
أما المنطق السليم فيقتضي بأن يكون الكشف عن خطط الأعداء المقدّمة فقط لوضع خطط مقابلة وبالتوقيت السليم الذي يضمن دراسة كل المعطيات وضمان الفوز في الرهان في النتيجة.
أمّا أن ننعى اتفاقاً بعد 27 عاماً من توقيعه وأن نكشف عن سلبياته بعد عقود من استثمار العدوّ له، واستغلال كلّ كلمة وحرف فيه لقلب موازين القوى الدولية وليصبح هو عنوان الديمقراطية في الشرق الأوسط في تناسٍ كاملٍ لحق شعب فلسطين العربي بأرض الآباء والأجداد؛ فهذا مؤشر ليس على دهاء هذا العدو واستهانته بالحقوق العربية فقط، وإنما مؤشر أيضاً على قصور الأدوات العربية عن مواجهته وتقديم سياق مقنع للعالم قادر على إعادة تموضع الرأي العام العالمي إلى جانب الحقوق المشروعة لشعب تعرّض لأبشع أنواع الظلم والاضطهاد.
والتخطيط أيضاً مرتبط بالتوقيت؛ ففيما يكون العالم مستعداً لسماع قصة ما، نكون نحن لانزال في طور الإعداد لها، وفي الوقت الذي تنضج القصة لدينا يكون الاهتمام العالمي قد انتقل إلى مكان آخر وإلى موضوع آخر. وهذه هي إحدى المسائل الأساسية التي نعاني منها في الإعلام لأنّ الإعلام هو فكر وتوقيت، وفي الوقت الذي يكون فيه الكون كلّه آذاناً صاغية لسماع تفصيل عن خبر ما اليوم، لن يكون مهتماً أبداً بكل تفاصيل هذا الخبر غداً. وهذه هي المسألة الأكثر أهمية في استحواذ اهتمام المتلقين وآرائهم.
وهذا ينطبق على العمل السياسي ايضاً؛ ففيما كان التنادي من أجل توحيد الصف الفلسطيني مثلاً قادراً على أن يفجّر قنبلة إخبارية وسياسية عالمية في وقت ما، جاء اليوم في ظلّ التسارع إلى التطبيع والمهاترات بشأن اجتماعات جامعة الدول العربية، وصور الطائرة الإسرائيلية تعبر الأجواء السعودية وتحطّ في مطار أبو ظبي، وتوقعات انتشار عدوى التطبيع إلى دول خليجية أخرى تملأ الفضاءات الإعلامية والسياسية.
حين يخطط أعداؤنا لحدث ما يبدأون بدراسة بند "التوقيت". وماهي الأحداث التاريخية والآنية التي تحيط بهذا التوقيت، وما هي العناوين التي قد تشتت الانتباه عنه، بينما يتصف معظم أعمالنا بردود أفعال لأحداث لم نخطط لها ولم نختر توقيتها ولم ندرس إيجابيات وسلبيات التحرك في هذه اللحظة أو تلك وبهذا الشكل أو ذاك.
ألم يحن الوقت لنجري مراجعة نقدية لأسلوب تعاملنا مع خطط أعدائنا، وسدّ الثغرات التي ساعدت العدو على النفاذ إلينا جيلاً بعد جيل وعقداً بعد عقد؟ في أي برنامج عمل في بلداننا العربية يكثر المتحدثون عن الأفكار والآراء ولا يحظى البرنامج الزمني بالدقة المطلوبة والصرامة التي تجعل من التواريخ المعطاة شأناً مقدساً لا يمكن تجاوزه أو الإخلال به.
واليوم، وفي غمرة استسلام خليجية غير مسبوقة، وتَنادي الفصائل الفلسطينية لتوحيد المواقف والذي جاء متأخراً جداً عن ضرورات المعركة مع العدو، يقف العدوّ في فلسطين المحتلة والقدس العزيزة ليرغم أبناء القدس على هدم منازلهم بأيديهم، في منظر يمثّل قمّة ما يمكن لأي وحش في الكون أن يرتكبه من جرائم ضد الإنسانية.
ويتحدث الطفل ذو السنوات العشر ليقول: "هذا تاريخي وهذه حياتي كلّها، وهناك صوري وذكرياتي، كلّها راحت؛ فأنا الآن لا شيء، لقد ذهب كلّ شيء." هذا المنظر وهذه الكلمات وتلك الأعين الحائرة لمن ينظر إلى الحائط وكأنه يريد أن يحتضنه بدلاً من أن يهدمه، وإلى الحجر وكأنه يريد أن يقبّله بدلاً من أن يرغم على رميه، يجب أن يصبح مشهداً عالمياً تدمى له القلوب وتتحرك له الضمائر في أرجاء الدنيا.
من قال إن الوقت ليس مناسباً الآن لإثارة مسألتي الأسرى المحرومين من كل الحقوق في السجون الإسرائيلية وحقوق المقدسيين والفلسطينيين في منازلهم التي يرغمهم الاحتلال على هدمها بأيديهم؟ السؤال هو: هل عرفت البشرية تاريخياً ظلماً كذاك الذي يمارسه الصهاينة على الشعب الفلسطيني؟ أوَلا نثق اليوم بأن كلّ ضمير بشري حيّ سينتفض بغضب إذا ما وصلته هذه المشاهد والحقائق كما هي؟ وهل من الصعب أو المستحيل إيصالها إلى العالم؟ هل ندع الفلسطينيين يهدمون منازلهم بأيديهم ويتم تهجيرهم عن أرضهم من دون أن نتمكن من قرع جرس إنذار إنساني للبشرية برمتها؟
قد يكون مثل هذا الحدث الذي ينقل على الشاشات العالمية أكبر تأثيراً من أي كلام سياسي عن مساوئ التطبيع وتقصير جامعة الدول العربية وضرورة الوحدة الفلسطينية، وما إلى هنالك من كلام لم يعد أحد يتوقف عنده لأنه أصبح مكرّراً ولا فحوى منه ولا جديد فيه.
منذ احتلال الأراضي الفلسطينية في أعقاب نكسة حزيران عام 1967 وحتى عام 2015 قدّرت اللجنة الإسرائيلية المناهضة لهدم المنازل أن "إسرائيل" دمرت 48488 مبنىً فلسطينياً. وكل أنواع الهدم التي تنفذها سلطات الاحتلال تتناقض تناقضاً صارخاً مع القوانين الدولية. فقد جعلت من الاستحالة بمكان، أن يحصل الفلسطينيون على رخصة بناء، بينما تبني "إسرائيل" آلاف المستوطنات سنوياً، وبحجة عدم الحصول على الرخصة تقوم بتدمير المنازل، كما تدمّر منزل أي أسرة قاوم أحد أفرادها الاحتلال، مع أن هذا مناقض لمعاهدة جنيف الرابعة (المادة 33) إذ لا تجوز معاقبة أي شخص على جريمة لم يرتكبها وبالتالي فإن الهدم العقابي يعارض النظام الأساسي لهذه المعاهدة والمادة (50) من قرارات لائحة "لاهاي".
أمّا أنْ تطوّر "إسرائيل" أنواع الهدم المجرم الذي حكمت على الشعب الفلسطيني به ليشمل ما لم يعرفه بشر، وهو أن يجبر الإنسان الذي بنى منزله بعرق جبينه وأمضى سنوات يضع لبنة فوق لبنة كي يصبح هذا البيت موئله وعائلته يقيه حرّ الصيف وبرد الشتاء، أن يجبر على هدم هذا البيت الذي يمثل قطعة من قلبه وكلّ تاريخ أفراحه وذكرياته وطفولة أبنائه، فهذا ما يجب أن يصمّ آذان الدنيا إذا ما نقل الأمر إلى العالم كما هو وعلى حقيقته.
نحن أبناء منطقة وحضارة وتاريخ، ندعو الله دائماً أن نكون آمنين في بيوتنا وأوطاننا، ونحن أهل الكتاب الذي قال الله عز وجلّ فيه: "والله جعل لكم من بيوتكم سكناً"، والسكن هنا هو السكينة والطمأنينة والأمن والأمان وليس فقط مكاناً مادياً نسكن فيه بل تسكن فيه أرواحنا وقلوبنا وذكرياتنا وإبداعنا وضحكات الأهل والأصدقاء.
كلّ هذا يجب أن يأخذ العالم برمته علماً به بالإضافة إلى معاناة الأسرى ونشر شهادات من ضحّوا كي تبقى أرضهم عزيزة وكي تبقى فلسطين لأهلها الأصليين. الإسرائيليون يرون انتصارهم في استسلام حكام العرب لهم، ونحن يجب أن نخطّط لمعركة مختلفة نبنيها على صمود الصامدين وعزيمة الأسرى والمقاومين، ونستخدم لغةً وأسلوباً وصوراً تهزّ ضمير العالم وتحوّل المعركة السياسية والإعلامية إلى حيث نشاء، وإلى حيث يمكن لنا الانتصار على أكاذيبهم وادعاءاتهم. قصص أطفال فلسطين، وصمود أهل فلسطين الأسطوري هو الذي يمكن أن ينسج خيوط حكاية تحوّل العقول والقلوب إلى حيث يجب أن تكون، بعيداً عن أكاذيبهم وأوهامهم التي عملوا على الترويج لها وكأنها حقائق. لنضع الخطط ونختَر التوقيت وننتصر لمن صمد وكابد بانتظار أن نمدّ يد العون الحقيقية له.