السعودية وإيران: هل آن أوان التفاوض والحوار؟

مرارة ترامب لاذِعة جداً، لكن ما الذي يمكن فعله، وقد سبق للسعودية أن وضعت كلّ بيضها في سلَّة الولايات المتحدة، وراهنت بالغالي والنفيس على كَسْبِ ودّها ورضاها من أجل استقرار الحُكم؟

في مقابلةٍ بُثَّت الأحد الفائِت، أقرَّ وليّ العهد السعودي محمّد بن سلمان لبرنامج "60 دقيقة" المُذاع عبر شبكة "سي بي إس" الأميركية أنّ الحرب بين السعوديّة وإيران "تعني انهياراً كلياً للاقتصاد العالمي، وليس للمملكة العربية السعودية أو دول الشرق الأوسط فحسب"، من دون أن يفوِّت فرصة للتحريض على إيران بالقول: "إذا لم يتّخذ العالم إجراءً قويّاً وحازِماً لردع إيران، فسنشهد مزيداً من التصعيد الذي سيُهدِّد المصالح العالميّة".

بُعَيْد ساعات قليلة على حوار بن سلمان، أكَّد المُتحدِّث باسم الحكومة الإيرانية أن الرئيس الإيراني حسن روحاني تلقّى رسالة من السعودية، عبر دولة وسيطة لم يُسمّها من أجل خفض منسوب التوتّر.

بمرارةٍ بالغة يُدرِك وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان أن الولايات المتحدة لن تنجرَّ إلى مواجهةٍ عسكريةٍ مع إيران. ولو كانت واشنطن تنوي ذلك لتلمَّست كل يوم عشرات الأعذار لتبرير الحرب على إيران وعَقْد التحالفات العسكرية الدولية لمواجهتها.

فقد سبق أن تعرَّضت بعض القوات الأميركية في الخليج للإذلال في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حين قالت إيران إن الجنود الأميركيين دخلوا مياهها الإقليمية بطريقةٍ غير مشروعة. وإذا كان أوباما مُتعاطِفاً مع إيران ضد بلاده، باعتباره مُنحَدِراً من أصول شيعية إفريقية كما روَّجت وسائل إعلام عربية شبه رسمية في حينه، فهل كان خَلَفه ترامب رجل الحرب المنشود؟

ترامب رجل يميني مُعتدّ بنفسه، وافتتانه بإسرائيل "الأعجوبة" لا ينقطع، وإخلاصه للسردية الصهيونية في كل مناسبةٍ قادته إلى محاولة فرض "صفقة القرن" التي لا تُعير قيمة ولا أهمية للطرف الفلسطيني ولا لحقِّه في التفاوض. فهل أراد حرباً مع طهران نيابة عن إسرائيل؟

يؤكِّد ترامب يومياً أنه يؤمِن بالدبلوماسية في حل الخلاف مع إيران. وأقصى ما يطمح إليه لجَلْبِ إيران إلى طاولة مفاوضات يشتهيها هو المزيد من العقوبات الاقتصادية. لا يخفي ترامب إعجابه بالحضارة الإيرانية، ويتطلَّع إلى لقاء قادتها والتحاور معهم لحلّ الأزمة.. فقط هو حزين على الفقر الذي يطال شعبها بسبب سياسات زعاماتها وفقاً لما غرَّد به يوماً.

أدرك القادة الخليجيون الذين تحمَّسوا لمجيء ترامب أن الرجل صريح حتى حدود الفَجاجة.. صريح في إذلاله القيادات العربية حين يقول: "تملكون أموالاً كثيرة. وعليكم أن تدافعوا عن أنفسكم. وإذا أردتم أن ندافع عنكم فعليكم أن تدفعوا لنا". وقد بلغ به المقام يوما أن قال إنه في حال رفعت الولايات المتحدة الأميركية يدها عن السعودية فستحتلّها طهران سريعاً.

مرارة ترامب لاذِعة جداً. لكن ماذا باليد فعله، وقد سبق للسعودية أن وضعت كلّ بيضها في سلَّة الولايات المتحدة، وراهنت بالغالي والنفيس على كَسْبِ ودّها ورضاها من أجل استقرار الحُكم واستمراريته وقد كانت تعي الفاتورة الباهِظة لهذا الارتهان؟

قبل الرياض، أدركت طهران طبيعة الموقف. وقد لخَّصه وزير الخارجية محمّد جواد ظريف في مُقابلةٍ أجرتها معه وكالة "إرنا" الرسمية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة حين سُئِل عن العلاقة مع الرياض: "يتصوَّرون أنه مثلما اشتروا كل شيء حتى الآن بالمال كالسلاح والصداقة والدعم، بإمكانهم كذلك شراء الأمن بالمال"، داعياً إياهم إلى وضع هذا "الوَهْم جانباً".

اليوم تُدرِك السعودية بمرارةٍ أن الولايات المتحدة لن تشنّ حرباً على إيران مهما فعلت أو مهما مارَسَ بنيامين نتنياهو من ضغوطٍ، هو الذي لم يتوان يوماً عن تحريض الأميركيين على إيران.

تذكرون مهزلته في الأمم المتحدة قبل سنوات وهو يحمل رَسْما رديئاً لقنبلة، يشرح عبره لقيادات العالم أهمية مواجهة إيران قبل بلوغها التخصيب المناسب لصنع قنبلة ذرّية. كان الزهو الخليجي يرقص طرباً بمسرحية نتنياهو لأنه رَاهَن على قُدرته على تجييش العالم الغربي لقتال إيران نيابة عنه وعن بعض العرب. فلا نجح نتنياهو ولا نجح العرب.

الصورة التي يجهد الإعلام السعودي برَسْمِها حول "إيران المُهتَرئة" و"السعودية العُظمى" تهتزّ أمام تصريحات عُمر خان رئيس الوزراء الباكستاني الذي أكَّد أن ترامب وبن سلمان طلبا منه التوسّط لدى إيران لقبولها التفاوض حول القضايا العالِقة. وهو نظير ما أكَّده رئيس الحكومة العراقية عادل عبدالمهدي من أن العراق تلقّى طلباً سعودياً للتوسّط مع الإيرانيين.

تُرِكَت السعودية وحيدة في تعاليها على إيران. وعاجِلاً ستضطر إلى التحاور معها بعد أن أيقنت أن الدعم الأميركي لها مشروط ومحدود في آن، وهو مرتبط بحاجة واشنطن لما في يديها وليس لشيء آخر. ويا ليت وفَّرت السعودية على نفسها كل هذا الاستنزاف في الموارد والطاقات، وبدأت بإنهاء الحرب التي يؤجّجها الإعلام المؤيّد لها في المنطقة ضدّ الشيعة والفرس والترك باستثناء إسرائيل التي اكتشف بعض منّا مؤخّراً أننا وإياهم أولاد عم، ولهم الحق في الوجود، وهي دولة سلام ومحبَّة في حين أن الصراع مع إيران هو صراع تاريخي وجودي!.