على أطلال الجمهورية
لقد قُدِّرَ لنا أن نكون نحن الجيل الذي يشهد بأُمِّ عينه إبادة الدولة بأساليب خفيّة، في حين تحوّل هذا الوطن من كوكبة الشرق إلى استراحةٍ للمسافرين قديمة الطراز شعبية تنبعث منها الروائح تضيق شوارعها، وعلى تلالها ينمو البناء العشوائي في كل اتجاه حتى تكاد لا تستطيع أن ترى فسحة صغيرة صالحة للحياة بمقاييس العيش السليم.
إن الشوارع المُزدحمة التي تمشي فيها اليوم هي ما تبقّى من لبنان التاريخ والحضارة حيثُ قَضْمِ الدّولة بكسارات الفساد لم يُبقِ منها إلَّا ما يُشبه الوطن المركون على ضفاف النسيان كل ما فيه مُهدَّد إمَّا بالضيْق أو النقص أو الانقطاع.
لقد قُدِّرَ لنا أن نكون نحن الجيل الذي يشهد بأُمِّ عينه إبادة الدولة بأساليب خفيّة، في حين تحوّل هذا الوطن من كوكبة الشرق إلى استراحةٍ للمسافرين قديمة الطراز شعبية تنبعث منها الروائح تضيق شوارعها، وعلى تلالها ينمو البناء العشوائي في كل اتجاه حتى تكاد لا تستطيع أن ترى فسحة صغيرة صالحة للحياة بمقاييس العيش السليم.
في ديانات لبنان الجديد، الطائفيون يقدِّمون الوطن قرابين لآلهة الطوائف، لا وجود لسنّي أو شيعي أو ماروني على عكس ما يُشاع عن هيكلية الحُكم، إنها فقط تسميات تستهوي عصبيات الشعب من جهةٍ وأموال الدول الكبرى من جهةٍ أخرى، أما الحقيقة فإن الحاكِم هو نظام شخصاني يكتسب فيه الزعيم الطائفي كل المزايا الربّانية بما فيها الصلوات والدعوات والطاعة المُطلَقة التي تتجاوز حدود الحرية الإنسانية التي منحها الله لعباده.
لن تأتي الكهرباء إلى لبنان لأننا نعيش على العتم بقرار دُوَلي، كل الخطط التي تمّت مناقشتها تمّت مناقشة ما يُشبهها من قبل وكل الكلمات التي قيلت قيل قبلها ما هو أجمل منها، وكل الأشخاص الذين أطلقوا الوعود وإن اختلفت أسماؤهم وربطات العنق كانوا ولا زالوا ينتمون إلى ذات القوّة الحاكِمة المُسيطِرة.
لبنان محكوم عليه بالعتم من ذات الدول التي تعتبر البعض اللبناني ممثلاً لها داخل الحكومة وفي البرلمان، وفَهْم الحقيقة هو الطريق الأول للحل، أيّ إنجاز سياسي في جمهورية اليوم هو في إيجاد مُصالحات واتفاقات داخلية تُبعِد شبح الحرب الأهلية وتُحافظ على صورة الدولة فحسب.
لا إنجازات حقيقية لدولة لبنان كما لا إنجازات حقيقية للكيان اللبناني، وحده القطاع الخاص والمغتربون يصنعون المعجزة ويساعدون على إعطاء تنفّس صناعي يُبقي الحال الصحية للوطن مُستقرّة لا هي قادِرة على النهوض ولا هي مُستسلِمة للموت الأبدي ، إنه الاحتضار الحتمي لوطنٍ قد تعطّلَت أطرافه فصار مُشوَّهاً لا يشبه نفسه ولا شعبه ولا حاملي الحرف على خشبة إلى أقطار العالم.
ولِجِهة السلاح غير الشرعي فإن أحزاب لبنان جميعها مُسلّحة بما يكفيها لحُكم الطائفة التي تُسيطر عليها، كل طائفة لديها ما يكفيها من السلاح لتغيّر المُعادلات عند الشعور بأيّ خطرٍ يُهدِّد النظام القائم، فيما تحاول الولايات المتحدة الأميركية أن تكون الطرف الأساس والوحيد في تسليح الجيش ذلك كي تضمن الكلمة الفصل لها في أيّ صراع اقليمي أو محلي مُستقبلي.
إن العبور نحو الدولة هو حلم تاريخي لبناني منذ ما قبل الانتدابات والاحتِلالات والمؤتمرات والتدخّلات الخارجية ، حلم كل أديب وشاعِر ومُغترب وشاب ومُعمِّر لبناني أن يرى هذا الكيان المحكوم عليه بالسجن وراء قضبان الطائفية وطَناً مُوحَّداً لمصلحة أبنائه لا قَصبَة ناي في حَقلٍ إقليمي تعزف كيفما نَفخت بها ريح السياسة وقد كتب جُبران خليل جبران بقلم الأديب المُعتَل بفقد الوطن يخاطب أمّته:
ويلٌ لأمّةٍ تنصرف عن الدين إلى المذهب، وعن الحقل إلى الزقاق، وعن الحكمة إلى المنطق، ويلٌ لأمّةٍ مغلوبة تحسب الزركشة في غالبيها كمالاً، والقبيح فيها جمالاً، ويلٌ لأمّةٍ تكره الضَيْم في منامها وتخنع إليه في يقظتها، ويلٌ لأمّةٍ لا ترفع صوتها إلا إذا سارت وراء النعش، ولا تفاخر إلا إذا وقفت في المقبرة، ولا تتمرَّد إلا وعنقها بين السيف والنطع، ويلٌ لأمّةٍ سياستها ثعلَبة، وفلسفتها شعوَذة، أمّا صناعتها ففي الترقيع، ويلٌ لكلِ أمّةٍ تُقابل كل فاتِح بالتطبيل والتزمير، ثم تشيّعه بالفحيح والصفير لتُقابل فاتحاً آخر بالتزمير والتطبيل، ويلٌ لأمّةٍ عاقلها أبكم، وقوّيها أعمى، ومُحتالها ثرثار، ويلٌ لأمّةٍ كل قبيلة فيها أمّة" هكذا خاطبَ جبران الأمّة لأن مشكلة لبنان ليست في مقام رئاسي أو وزاري أو نيابي ، وليست حتى في دولة خارجية من دون أخرى بل هي في عزيمة أمّة موحَّدة للنهوض نحو الوحدة ونحو المِنعة والقوّة كي لا نبقى من لبنان جبران خليل جبران وحتى لبنان اليوم نكتب على أطلال الجمهورية!