الإعلام الغربي بلغةٍ صهيونيةٍ، بولندا نموذجاً
تعزيزاً للرواية الصهيونية للأحداث يتبنّى الكاتب وجهة النظر الصهيونية فيدَّعي أن حماس أطلقت مئات الصواريخ على ( إسرائيل) الآمِنة، الوديعة، المُسالِمة، التي لا تحتل أرض الشعب الفلسطيني ولا تُحاصِر غزّة وتجوّعها وتعطّشها، وتمنع عنها الدواء والماء والغذاء والكهرباء والوقود، وترفض وتمنع دخول المساعدات المالية، لتدمِّر كل مقوِّمات الحياة والبناء.
مقالة ياسيك بافليسكي (هل ستندلع الحرب مرة أخرى في قطاع غزّة؟)، التي نُشِرَت في عدد يوم الإثنين السابع من أيار الجاري، في مجلة نيوزويك النسخة البولندية، تصلح أن تؤخَذ مثالاً على حجم ارتهان الإعلام البولندي وتبنّيه للرؤية والموقف الصهيونيين في الصراع العربي الصهيوني.
أما بافليسكي فليس الإعلامي أو الكاتب البولندي الوحيد الذي يُعتَبر بوقاً للدعاية الصهيونية. فلطالما طالعتنا وسائل الإعلام البولندية المقروءة والمسموعة والمرئية بمثل هذه المقالات والأخبار، البعيدة كل البُعد عن الواقعية وعدم الانحياز في التغطية والتحليل وفي تقديم المعلومة للقرّاء وللمشاهدين وللمستمعين.
يبدأ بافليسكي مقالته بالقول: ( في الصراع بين "إسرائيل" وحماس). والحقيقة أن الصراع ليس صراعاً بين الاحتلال الصهيوني وحركة حماس، لكنه صراع طويل يمتد لمائة عام بين الصهاينة ومشروعهم الاستعماري وبين العرب ورأس حربتهم الشعب العربي الفلسطيني. فحماس دخلت الحَلبة في وقتٍ لاحقٍ، بينما الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية المقاوِمة يكافحون ويقاومون منذ وعد بلفور اللعين. يتجاهل مُتعمِّداً الكاتب هذه الحقيقة ويتبنَّى الدعاية الصهيونية التي تركِّز على أن الصراع بين ( إسرائيل) وحماس، لتوهِم العالم بأن الشعب الفلسطيني محتل من قِبَل حركة حماس، التي يعتبرها الاحتلال ومعه معسكر الأعداء حركة إرهابية وليس حركة تحرّر وطني، تقاوِم الاحتلال ومشروعه الاستعماري في فلسطين والشرق العربي.
يتابع بافليسكي فيقول: (سقط 600 صاروخ أُطلِقت من قاذفات حماس،على إسرائيل. شنّ الطيران الإسرائيلي 200 غارة جوية.
قُتِل ما لا يقلّ عن 23 فلسطينياً معظمهم من نشطاء حماس والجهاد الإسلامي، فضلاً عن امرأة حامل وتوأم وطفل يبلغ من العمر 12 عاماً. نتيجة لإطلاق الصواريخ، مات أربعة إسرائيليين).
تعزيزاً للرواية الصهيونية للأحداث يتبنّى الكاتب وجهة النظر الصهيونية فيدَّعي أن حماس أطلقت مئات الصواريخ على ( إسرائيل) الآمِنة، الوديعة، المُسالِمة، التي لا تحتل أرض الشعب الفلسطيني ولا تُحاصِر غزّة وتجوّعها وتعطّشها، وتمنع عنها الدواء والماء والغذاء والكهرباء والوقود، وترفض وتمنع دخول المساعدات المالية، لتدمِّر كل مقوِّمات الحياة والبناء. كما وتُمارِس حصاراً مُشدِّداً على القطاع، وتقصف الناس يومياً، كما تقوم بقتل المتظاهرين الفلسطينيين المُسالمين في مسيرات العودة بشكلٍ وحشيّ، موثَّق بالصورة والصوت. كذلك تخرق التفاهُمات مع الجانب الفلسطيني، التي رعتها مصر وجهات أخرى ومنها آخر تفاهم في نوفمبر الماضي، الذي يُلزِمها عدم استخدام الذخيرة الحيَّة في مواجهة مسيرات العودة. وفي هذا الصَدَد نعود لما نشره بافليسكي حيث جاء في مقالته إن الجولة الجديدة بدأت كالمُعتاد من شرارة، هذه المرة عبر قيام قنَّاص من حركة الجهاد الإسلامي بقَنْصِ جنديين ( إسرائيليين ). وردَّاً على قيام الفلسطينيين بإطلاق صواريخ على الجانب (الإسرائيلي). هنا يتجاهل الكاتب تماماً الاعتداءات اليومية الصهيونية وقتل وجرح مئات الفلسطينيين في مسيرات العودة، وعدم التزامه الاتفاقيات والتفاهمات التي جرت سابقاً برعايةٍ مصرية.
يدَّعي بافليسكي أن الكراهية تجاه (الإسرائيليين) تتزايد لدى الفلسطينيين، في حين أن الجانب (الإسرائيلي) فقط يعاني من عدم الثقة بالفلسطينيين. ويضع بافليسكي اللّوم على الفلسطينييين الذين يجب عليهم تقبّل قتلهم والعدوان عليهم دونما أية ردّات فِعل أو تعامُل مع الاحتلال.
يتجاهل الكاتب البولندي الذي من المفترض أنه مُطّلع وعلى عِلم بتطوّرات الأحداث في المنطقة، أن حركة الجهاد الإسلامي سبق وقالت مراراً بأنها ستردّ على قتل المتظاهرين في مسيرات العودة وسبق لها أن فعلت ذلك من قبل. حيث لاقى ردّها ترحيباً شعبياً فلسطينياً كبيراً.
بافليسكي يقول في مكانٍ آخر من مقالته " ربما يُدرِك الساسة الإسرائيليون حقيقة أنه من دون تخفيف الحصار الكامل لقطاع غزّة وتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للجَيْب، لا يمكن القضاء على أسباب الكراهية والعدوان الفلسطينيين. الإسرائيليون خائفون - وربما بحق - من أن سياسة الانفتاح من دون تنازلات موثوقة من حماس ومنظمات أخرى تكافح ضد "المحتل" ستؤدّي إلى تدهور أمن إسرائيل. بعد كل شيء، يمكن استخدام الإسمنت لبناء أنفاق من شأنها تهريب المزيد من الصواريخ، بينما يمكن لقوارب الصيد حمل الأسلحة، إلخ. ".
يُكرِّر حديثه عن الكراهية الفلسطينية وعدم ثقة الصهاينة بالفلسطينيين، ويتجاهل كل جرائم الصهاينة وحقدهم وعنصريّتهم وتعاليمهم الاستعلائية والاستعمارية، وكراهيتهم للعرب وللفلسطينيين، واعتبارهم (غوييم) أي عرق أقل شأناً من العرق اليهودي. وفي هذا الشأن تحضرنا كلمات الحاخام الصهيوني مدير مدرسة أبناء ديفيد، التي تقوم بإعداد الشبان اليهود للخدمة في الجيش الصهيوني. الحاخام أليعازر كشتيل قال بوضوح إن اليهود عرق أرقى من كل الأعراق وأن الغاء العبودية خطأ لأن غير اليهود يريدون أن يكونوا عبيداً لدى اليهود. وأن الفلسطينيين لديهم مشاكل وراثية ويريدون العيش تحت الاحتلال. وأكَّد في ختام حديثه أنه عنصري ... ورداً على سؤال الصحافي أجاب نعم نحن عنصريون.
كل هذه العنصرية وتلك الكراهية لغير اليهود لم تلفت انتباه بافليسكي، الذي قال عن شعبه ( كاتس ) وزير الخارجية الصهيوني بالوكالة قبل أسابيع إن البولنديين شعب يرضع اللاسامية مع حليب أمّهاتهم.
يتّهم بافليسكي حماس بالمسؤلية عن تدهور أوضاع الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة ويبرِّىء (إسرائيل) من المسؤولية عن ذلك. أنظروا كيف يُمرِّر الخبر بخبث: " أولئك الذين يقولون إن إسرائيل مسؤولة عن كل كوارث غزّة مخطئون. تدهور الوضع في القطاع بشكلٍ كبيرٍ منذ تولّي حماس السلطة، والتي تهتم حكومتها بشنّ حرب للقضاء على إسرائيل أكثر من مصير مواطنيها. حماس هي حزب حرب".
بافليسكي ليس الإعلامي البولندي الوحيد الذي يتبنَّى الموقف الصهيوني والدعاية الصهيونية. هناك كثيرون وكثيرات من الإعلاميين والإعلاميات في البلد السلافي العريق يسلكون نفس السلوك، ويحملون نفس المفاهيم والرؤى. إما نتيجة عدم فَهْمهم للصراع أو من أجل كَسْب الشهرة، أو لأجل المال الذي توفّره لهم مؤسّسات مالية وإعلامية صهيونية ويهودية، وإما انحيازاً للصهيونية نتيجة كراهية العرب. نجد أمثال هذا الإعلامي في مجتمعٍ يعجّ بالعداء والكراهية لليهود. والحديث عن كراهية اليهود في بولندا لا ينتهي، فكراهية الكثيرين من البولنديين لليهود تاريخية وساهمت في هجرة مئات الآلاف منهم إلى فلسطين المحتلة ، إما هرباً من الواقع المُزري والمُعادي أو تناسقاً مع المشروع الصهيوني آنذاك.
رغم العداء والكراهية المُعشّشة حتى في عددٍ كبيرٍ من الأحزاب العنصرية واليمينية البولندية والإعلان عن ذلك بشكلٍ دائمٍ ومُكرَّر. وبالرغم من كراهية غالبية البولنديين لليهود كيهود، وامتلاء شوارع مدنهم وقراهم وبلداتهم وحتى ملاعبهم بالشعارات المُعادية لليهود. إلا أن اللوبي اليهودي في بولندا مُسيطر بشكلٍ واضحٍ وقوي على الحياة السياسية والإعلامية والثقافية والاقتصادية في البلد. ويبدو أن الكيان الصهيوني مُستفيد من حال العداء تلك، التي يستخدمها في ابتزاز كل بولندا، وفي تحشيد أمثال بافليسكي من الإعلاميين والكتّاب والمُثقّفين البولنديين.