عمّال العالم في عيدهم يحتجّون، إنهم لمحرومون
وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008م أصبح العالم يترنّح بين ناري الشيوعية المقيتة والرأسمالية البغيضة، ولم يجد حلّا وبدّا إلا بالرجوع إلى المعاملات المالية الإسلامية التي تتبع خط الحقوق الشرعية للعامل وتمنح الاقتصاد العالمي أمانا من السقوط المدوّي.
بعد الثورة الفرنسية كنا نظن أن العمال سيحصلون على حقوقهم، وأن الطبقة الكادحة التي دافع عنها كارل ماركس ستجد طريقها وستتنفّس الصعداء بعد أن فكّت الكنيسة أغلالها ولم تعد تتحكّم في الحياة المدنيّة، وبعد أن كانت تمارس أبشع الجرائم في حق البشر، فكان من فرْط تعصّبها ما كانت تعتقد أن الدين المسيحي ينبذ العصرنة فحاربت كل جديد وهاجمت كل حديث، بدعوى أنه مخالف للفطرة الدينية المسيحية، وكانت تمارس سطوتها الشديدة على المرأة وتعتبرها نجسة لا يحق لها المطالبة بأي حقوق مدنيّة بل عليها أن تكون في خدمة الرجال متى أرادوا ذلك.
وفي ظل هذه الممارسات البشعة وغيرها في حق الإنسانيّة والعيش في ظلام الجهل والعبودية والإذلال ظهرت ما يسمى الحركة الإلحادية التي تناهض الفكر الديني المسيحي المتشدّد، فكفرت بأنعم الله وجعلت كل شيء متعلقا بالدين المسيحي أفيونا حتى جاء كارل ماركس أبو الإلحاد لينشر أفكاره الجديدة المسمومة أساسها أن الدين أفيون الشعوب، ولم يحدّد أي الأديان رغم أنه كان يشير إلى الدين المسيحي الذي كان يكبّل كل إبداع ويقضي على كل جديد ويحاصر كل فكر يريد التغيير والخروج من أزمة التقليد.
وفي ظل هذه التموجات الفكرية وما تابع الحركة الشيوعية من تطورات مجتمعية عندما وقف ماركس بجانب الطبقة الضعيفة أو طبقة البروليتاريا أو الطبقة الكادحة في المجتمع انطلقت ثورته على الدين بطريقة همجية، فلم يوازن في ثورته بين ما هو حسن في المسيحية وما ينادي به من أفكار جديدة، بل نسف كل ما يتعلق بالدين أو التدين وأحدث نظاما جديدا سماه الشيوعية أو الإلحاد ومعناه إقصاء الدين من الحياة الاجتماعية وحتى السياسية، ليبقى المجتمع يعيش حياته على أنقاض الثورة الفرنسية تنادي بالحرية والعدل والمساواة، هذه المبادئ الثلاثة كانت مفقودة في عهد الدول الدينية المتمسكة بالمسيحية حيث السطو الفكري والابتذال الأخلاقي.
ولم تكن الشيوعية يوما حلّا جذريا لما يعانيه الغرب من الظلم القهري والسطو الفكري وإنما كان حلا وقتيا للخروج من الأزمة وفكّ الرباط مع الدين المسيحي الغارق في الفساد والظلام، أفرغ الإنسان من روحه وركز على الجانب المادي، فعاش الإنسان في تيه مطبق ومطلق، سقطت على إثر ذلك الشيوعية بسقوط الاتحاد السوفيتي الذي كان يحميها ودُمّرت مبادئها في التراب لأنها لم تعد صالحة لكن الذي تخرّ له الجبال هو ميل بعض أبناء المسلمين إلى هذا الفكر المشوّه رغم سقوطه المدوّي، فما زال من أبناء جلدتنا من يريد أن يطبق هذا الفكر الملوّث في عصرنا الحديث.
ألم يعلم هؤلاء أن الإسلام هو الذي أتى بشعارات الحرية والعدل والمساواة، وليست الشيوعية ولا الماركسية، والأمر واضح لا لبس فيه، فقد كان العرب في الجاهلية يعيشون نفس الطقوس الأوروبية في عصر الظلام إلى أن أتى الإسلام وبيّن أن الإنسان هو أساس الحياة، والاستثمار في الإنسان من أولى الأولويات، وأن التديّن أمر ضروري لتحقيق إنسانيّة الإنسان، وأن الدين لا بد من أن يستجيب لرغبات الإنسان الفطرية ويضبطها حتى لا تتعدى حدودها وإلا صار منبوذا، ومن هنا كانت المسيحية في ذلك الوقت منبوذة من قبل كثير من المجددين في الفكر لأنها تمارس التقييد والتكبيل والعجرفة وبالتالي لم تعد مقبولة فقامت الثورة على كل معتقداتها الكلاسيكية المرفوضة.
ومن ينادي اليوم بفصل الدين عن السياسة أو عن الحياة عُدّ علمانيّا في فكره، لأن الحياة لا تستقيم إذا خاطب المنادي الإنسان جسدا وأقصى الروح، فهي حياة تسبح في فضاءات الفكر المشوّه، تنتج منه بذرات سيئة تشوّه المسار الحضاري الذي كانت عليه الإنسانية في صدر النبوة المشرق بهذه الشعارات والمبادئ والقيم الرفيعة، وترسّخ فكرا بشريا لا يصلح مثل زمن سقطت فيه الشيوعية كمبدأ من مبادئ الثورة الإنسانية لأنها قامت على فكر ناقص لا تمتد رؤيته إلى الآفاق البعيدة.
الشيوعية لم تكن حلّا جذريا للعمال كما يعتقد الماركسيون وكما يظن كثير من الناس أن الماركسيين هم أصحاب قضية تحرير العمال، لكن الواقع اليوم وبعد تجذر الفكر الماركسي صار مأساويا أكثر مما مضى، فكيف لا يستطيع أيّ من العمال أن يملك شيئا، لأن كل شيء مشاع وبالتالي سقطت الملكية الشخصية من حساباتهم، وظل العامل يترنح بين شيوعية مجحفة في حقهم ورأسمالية يتزعمها الليبراليون والامبرياليون، وبقي العمال الكادحون في حيص بيص من أمرهم، لم ينالوا حريتهم في الزمن السابق ولن ينالوها في الزمن الحاضر ما داموا لم يحصلوا على حقوقهم كاملة، ويبقى الحل في الإسلام الذي يهابونه ويخافونه فهو الذي منح العامل حقه كاملا، له أن يملك ويتصرف في ملكه كيفما شاء ووقتما شاء وفق ضوابط معينة وقواعد ثابتة قوامها العدل والمساواة ولم يصادر أملاكه لحساب الدولة وكأنه محروم من هذا الحق، لأنه صفة غريزية في البشر، وعندما سمح له بحرية امتلاك المال منحه كامل الحرية في جمع المال وفي إنفاقه بطريقة أخلاقية بعيدة عن الغش، أو الاحتكار، أو الربا، أو التحايل.
وله أن يدافع عن حقه كاملا ويحصل على حقوقه تامة، واضعا نصب عينيه أن الأخلاق هي التي تقوده نحو تحقيق مبتغاه معتمدا على قاعدة شرعية منضبطة "لا ضرر ولا ضرار" لأن الرأسمالية لا تعير للأخلاق اهتماما ولا قيمة عندها للرحمة والعاطفة الإنسانية أو المثل العليا عند الحصول على المال، وكل هذا يؤدي إلى ظلم الآخر بأي حال من الأحوال، فينخر المجتمع الفساد ويقوي معول هدمه بيده لأن الأخلاق زالت والجانب الروحي والضمير الإنساني معدوم مندثر فلم يبق إلا اللهاث وراء المصلحة الجشعة، فأصبح الرأسمالي شرِها متكالبًا على المال، وهذا ما نراه اليوم سائداً في هذا العالم المتوحش، الموحش الذي لا يرى إلا الحصول على المال هدفا أوحد، وهذا المذهب تقوده الولايات المتحدة الأميركية ومعها كثير من البلدان، وتصنّعه كثير من الأفراد في معاملاتهم الفردية.
وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008م أصبح العالم يترنّح بين ناري الشيوعية المقيتة والرأسمالية البغيضة، ولم يجد حلّا وبدّا إلا بالرجوع إلى المعاملات المالية الإسلامية التي تتبع خط الحقوق الشرعية للعامل وتمنح الاقتصاد العالمي أمانا من السقوط المدوّي.