"البوسطة" أداة للتنكيل بالأسرى الفلسطينيين

تبحث هذه المقالة موضوع سيارة النقل "البوسطة" -أداة الاذلال المتعمد- من قبل إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية بحق الأسرى.

يعتبر الأسرى الفلسطينيون البوسطة قبرًا متحركًا

تعتبر قضية الأسرى الفلسطينيين من القضايا المركزية عند الشعب الفلسطيني، لما قدمه الأسرى من تضحيات كلفتهم حريتهم وفي بعض الأحيان حياتهم ثمنًا لها. لقد بلغ عدد الأسرى في نهاية سنة 2018، "6500 أسير"؛ من بينهم 700 أسير مريض بحاجة إلى علاج عاجل.

وتتعمد إدارة مصلحة السجون حرمان الأسرى من أبسط حقوقهم التي نصت عليها المواثيق الدولية كافة وهي حقهم في العلاج، من خلال سياسة الإهمال الطبي المتعمد، حيث استشهد مئات الأسرى داخل سجون الاحتلال أو بعد الإفراج عنهم بفترة وجيزة بسبب الإهمال المتعمد. وقد بلغ عدد الأسرى الشهداء الذين استشهدوا في السجون 217 شهيداً حتى سنة 2018، فالإحتلال الإسرائيلي يهدف إلى معاقبة الأسير الفلسطيني على ممارسته حقه المشروع في المقاومة.

كما عمل الاحتلال الإسرائيلي على تشريع القوانين العنصرية ضد الأسرى، ومن أبرزها، مشروع قانون إعدام الأسرى، ومشروع قانون يقضي بحظر الإفراج عن الأسرى، في مقابل جثث الجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى فصائل المقاومة، وقانون خصم مخصصات الشهداء والأسرى من مستحقات أموال المقاصة للسلطة الفلسطينية وغيرها من القوانين المدرجة على طاولة الكنيست الإسرائيلي.

تبحث هذه المقالة موضوع سيارة النقل "البوسطة" -أداة الاذلال المتعمد- من قبل إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية بحق الأسرى.

فمصلحة السجون الإسرائيلية (الشاباص)، تم تشكيلها سنة 1949، وتتبع لوزارة الداخلية الإسرائيلية وتمثل الذراع التنفيذية لإنفاذ القانون في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يقع مقرها الرئيسي في مدينة الرملة المحتلة، وهي مسؤولة عن إدارة كل سجون الاحتلال. تسعى مصلحة السجون الصهيونية إلى مضاعفة معاناة الأسرى وتحويل حياتهم إلى جحيم داخل الأسر ضمن سياسة العقاب الدائم والمتواصل للأسرى، ولا تنفك عن التخطيط والتفكير في ابتداع أساليب من شأنها قهر الأسرى ومضاعفة معاناتهم.

وتهدف إدارة مصلحة السجون عبر إجراءاتها إلى كسر إرادة المناضل الفلسطيني، وصولاً إلى تفريغه من مبادئه، وبهذا السياق تنتهج إدارة السجون سياسة ممنهجة لتنكيل بالأسرى من خلال البوسطة، التي تعني إذلال وعقاب الأسرى.

وتزداد معاناة الأسرى وبالأخص المرضى منهم عند نقلهم إلى السجون أو المحاكم أو المستشفيات في سيارة البوسطة التي تشرف عليها فرقة القمع "النحشون". تعتبر فرقة النحشون التابعة لشركة أمنية إسرائيلية خاصة من أقسى الفرق القمعية للأسرى، فهم يضربون ويشتمون وينكّلون ويشدون وثاق الأسرى "كلبشات" بشكل استفزازي وحاقد. وتستمر رحلة النقل هذه نحو 8 ساعات يكون الأسير طول هذه المدة مقيّدًا على كراسي حديدية ولا يسمح له بقضاء حاجته أو تناول الطعام. إضافة إلى أن العديد من الأسرى يتم الإعتداء عليهم بطريقة وحشية ومهينة خلال عملية النقل . فقضية البوسطة هي من أبرز القضايا التي مازالت عالقة ولم تحسم بين ممثلي الأسرى. فالكاتب خاض هذه التجربة أكثر من مرة، من خلال التنقل بين السجون أو بيل المحاكم في البوسطة.

وتوصف رحلة البوسطة بالتعذيب حيث يتعرض فيها الأسرى إلى عذاب قاسٍ، وتزداد الأمور خطورة بالنسبة للأسرى المرضى عندما ينقلون في البوسطة وليس في سيارات إسعاف. فعدد من الأسيرات بدأن يتنازلن عن جلسات محاكمهن بسبب الظروف القاسية والمهينة خلال عمليات النقل. وفي بعض الأحيان، يضطر الأسرى المرضى إلى عدم الكشف عن أوجاعهم خوفاً من عملية النقل في البوسطة.

وعلى الرغم من التزام مصلحة السجون الصهيونية أمام المحكمة العليا في عامي 2008 و2010 بتحسين ظروف نقل الأسرى من السجون إلى المستشفيات والمحاكم، إلا أن الأسرى مازالوا يعانون من ظروف النقل المزرية، مما يدفع بالعديد من الأسرى للتنازل عن العلاج بسبب ظروف النقل القاسية. فعلى سبيل المثال اضطر أسير يعاني من البواسير للتنازل عن إجراء فحوصاته الطبية بسبب العذاب الذي يعاني منه خلال النقل . فالأسرى يعتبرون البوسطة قبرًا متحركًا. ويعتبر نقل الأسرى المرضى في سيارة البوسطة الحديدية جريمة أخرى تضاف إلى سلسلة الجرائم الإسرائيلية .

ومن المهم في هذا السياق أن نكشف بأن مصلحة سجون الاحتلال توظّف بعض مواقف الأسرى لتدعيم موقفها بعدم وجود إهمال طبي. فعلى سبيل المثال يتم تحديد موعد للأسير في عيادة خارجية تابعة لسجن الرملة أو سجن جلبوع، ولأن الأسير لديه قناعة بأنه لن يستفيد من الذهاب إلى العيادة المذكورة يرفض الخروج في البوسطة حيث عذابات ومشقة السفر، حيث يحسبها الأسير في حال خروجه سيعود مريضًا وسيكون طريح الفراش لمدة أسبوع. لذلك عندما يعتذر الأسير عن الخروج تقوم إدارة السجن بتوقيعه على ورقة بأنه لا يريد الخروج من تلقاء نفسه. وقد وقع العشرات من الأسرى في هذه المصيدة، حيث تقوم مصلحة السجون بتجميع هذه الأوراق الموقعة من قبل الأسرى الذين رفضوا الخروج في بوسطة لعيادة خارجية، وتضمنها في تقاريرها بأنها تحدد مواعيد للأسرى لمقابلة الأطباء، والأسرى يرفضون.  

لقد صادرت سلطات الاحتلال جميع حقوق الأسرى التي كفلتها لهم الاتفاقيات والمواثيق الدولية، وفـرضت عليهم داخل السجن حياةً لا تطاق في تحدٍ صارخ للقانون الدولي . فقد شهدت سنة 2017 وسنة 2018 تصعيدًا في تشريع القوانين العنصرية ضد الأسرى من قبل سلطات الاحتلال ، والسنة الماضية تعتبر أسوأ السنين في حياة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.

وسياسة التنكيل واذلال الأسرى مازالت مستمرة بكل الوسائل الوحشية وبالاخص سياسة التنقل في سيارة القبور المتحركة "البوسطة". ففي التقرير السنوي لهيئة شؤون الأسرى الصادر في 29 كانون أول/ ديسمبر 2018، تؤكد فيه الهيئة بأن سنة 2018 شهدت هجمة عنيفة على الأسرى الفلسطينيين داخل المعتقلات الإسرائيلية، حيث شنت ماكينة القمع الاحتلالية حرباً شرسة على الأسيرات والأسرى وعائلاتهم، من خلال سياسات ممنهجة تتمثل في، سياسة البطش والتنكيل واقتحام غرف الأسرى وأقسامهم، والإعتقال الإداري، والعزل الإنفرادي، والإهمال الطبي، واعتقال القاصرين والنواب والنساء والصحافيين، وفرض الغرامات العالية، والحرمان من المراسلات والزيارات، ونقل الأسرى وإبعادهم عن مكان سكنهم الأصلي، ومنع التعليم، وغيرها.

ويجمل الكاتب أنه لا يمكن وصف معاناة الأسرى خلال نقلهم في البوسطة، حيث أصبحت تشكل كابوسًا للأسرى وأصبح الأسرى يقبلون على أنفسهم كل الأمراض والمعاناة ورفض الذهاب إلى المحاكم في مقابل عدم الصعود في سيارة البوسطة المدججة بالوحوش الذين ينكلون في الأسرى أثناء رحلة القهر.

 

*د. عقل صلاح أسير فلسطيني سابق وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.