السياسة فن المستحيل وليس الممكن
تحديات كبرى تعيشها تونس، وسط ارتفاع مستوى الإحباط لدى الشعب وتفاقم المشاكل الاجتماعية. في حين أن غياب مشروع وطني وقيادة قادرة على إعادة الثقة للتونسيين تحمل برامج فيها تحديات كبيرة تستحق التضحية، جعل الشباب التونسي يجنح نحو الهجرة.
عندما تحدّث جمال عبد الناصر لأوّل مرة عن برنامجه لتأميم قناة السويس وشركات الطاقة، وعن أمله في بناء السد العالي، اعتبره البعض مخبولاً، فيما اعتبره البعض الآخر صبياً سياسياً ومغامراً سيذهب بمصر إلى الهاوية.
كان الجميع في ذلك الوقت ينظر إلى الأمر على أنه يستحيل تحقيقه بالنظر إلى مَن يقف في الواجهة الأخرى من آلات عسكرية إسرائيلية، فرنسية، أميركية وبريطانية. لكن تلك المغامرة جعلت من عبد الناصر زعيماً عربياً، ورافقته مصر كلّها إلى مثواه الأخير.
عقود مرّت وجرت تحت الجسور مياه كثيرة، ولا يزال العالم العربي يتخبّط في مطالب يومية في ظلّ برامج انتخابية كاذبة. تونس أيضاً عاشت تجربة فريدة من نوعها في ظلّ حُكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة على علاّته، بورقيبة ترك الحُكم في سنة 1987، ولكنّه ترك أيضاً ما يقارب 5600 مدرسة لشعبٍ يعادل سكانه 6 ملايين نسمة، وهو رقم متطوّر بالفعل مقارنة بالدول العربية.
مراهنة بورقيبة على التعليم خلقت له أعداء كثيرين جعلته في كل مرة يُغيّر فريقه الحكومي، ويُغيرّ في كل مرة برنامجه الاقتصادي من التعاضد إلى رأسمالية الدولة إلى الأنفتاح. فيما يبقى قرار منع تعدّد الزوجات والتنظيم العائلي قراراً جريئاً أدخل بورقيبة حقل ألغام حصدت تونس نتائجه بعد نصف قرن، فمنذ سنة 1960 ازداد عدد سكان المغرب في هذه الفترة 20 مليون نسمة، فيما ازداد عدد سكان تونس 5 ملايين نسمة فقط.
بعد قرارات بورقيبة الجريئة عاشت تونس بداية أواخر 2010 و بداية 2011 ثورة اجتماعية نادت بالحرية والكرامة، لكن السياسة التونسية والاقتصاد التونسي عادا قروناً إلى الوراء، لا يزال الجميع يعتمد مبدأ "السياسة فن الممكن" يتحرّكون في حدود الممكن والمأمول، وحسب الإمكانيات والأهداف المضبوطة من دون خوض مغامرات أو قرارات مصيرية قد لا يقدر الجميع على تحمّل نتائجها.
ظلت السياسة في تونس راكِدة بهامش تحرّك صغير جداً، ما أسفر عن حال إحباط كبيرة جداً، حيث أعلنت شركة سيقما كونساي لسبر الآراء يوم 15 آذار/ مارس الجاري أن 79.1% من التونسيين محبطون ويرون أن البلاد تسير نحو الطريق الخطأ، فيما يرى 58.4% من السكان أن وضع الجيل القادم أسوأ و هو أمر خطير جداً، لكن هناك على الجانب الآخر أصبح هذا المبدأ مأساوياً جداً. لم يصدق أحد المسؤولين الصينيين عندما أعلنوا قبل سنوات عن إعادة إحياء طريق الحرير، والذي يمر عبر 66 دولة و يجمع 3 قارات، كما يشمل أكثر من 4 دول عربية، ورصدت له ما يقارب 900 مليار دولار. كان هذا البرنامج الصيني مستحيلاً قبل أعوام لكنّه اليوم أصبح قريباً جداً من أن يصبح واقعياً. ما يؤكّد أن السياسة أصبحت فنّ المستحيل وليس الممكن، فن المستحيل من خلال إقناع المواطنين بأنهم قادرون مثلاً على المضيّ بالبلاد نحو مصاف الدول المتقدّمة، بأنهم قادرون مثلاً في ظرف 5 أعوام على إرسال قمر صناعي إلى الفضاء (في بعض الدول النامية يُعتبر هذا الأمر عادياً).
بعد انتفاظة 14 كانون الثاني/ يناير، تتوالى وتتعاقب الحكومات في تونس، فيما تبقى التحديات والبرامج ساكِنة لا تتغيّر (مكافحة الفساد، الإصلاح الاقتصادي، الخفض في الأسعار، إيجاد حلول للمؤسسات العمومية والتي تعاني مشاكل وإن كانت كلها تعاني مشاكل تقريباً)، في المقابل لن تسمع خطاباً واحداً يتحدّث عن مشروع وطني، عن حلم تونسي يجمع التونسيين و يجعلهم ينهضون باكراً بابتسامة عريضة إيماناً منهم في إمكانية تحقيق هذا الحلم، لن تسمع أحداً يتحدّث عن محاولة لتغيير السياسة الحالية، عن البحث عن تحالفات جديدة. لم نرَ رئيس حكومة من الذي مرّوا علينا ذهب في زيارة إلى الهند أو الصين أو هونغ كونغ أو اليابان أو أندونيسيا، لم يتحدّث أحد عن تأميم ثروات الملح التي تستغلّها شركة كوتوزال منذ نصف قرن بأبخس الأثمان، لم يجرؤ أحد على اعتماد استراتيجية جديدة للتعليم تأخذ بعين الاعتبار ما يحدث في العالم الجديد والاعتماد على خبراء يابانيين ( اليابان تحتوي على أفضل برنامج تعليم في العالم) عوض البرنامج التعليمي الفرنسي، أو التوجّه إلى عقد شراكات مع الصين (بداية تحرّك التنّين الصيني في إفريقيا ومحاولة السيطرة على ميناء جيبوتي إضافة إلى بداية تنفيذ أكبر مشروع في التاريخ وهو طريق الحرير).
غياب مشروع وطني وقيادة قادرة على إعادة الثقة للتونسيين تحمل برامج فيها تحديات كبيرة تستحق التضحية، جعل الشباب التونسي يجنح نحو الهجرة، فحسب منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي فإن تونس في المرتبة الثانية من حيث هجرة الأدمغة في العالم العربي بعد سوريا، وقد بلغ عدد الكفاءات المهاجرة في السنوات الست الأخيرة ما يُقارب 94 ألف كفاءة، 84% منهم نحو أوروبا بينهم 8000 إداريون و1200 رجل أعمال، 1464 بين معلمين وأساتذة غادروا البلاد بين 2014 و2015. هذا النزيف لا يزال يتواصل حتى الآن، فحسب بيانات وزارة التعليم العالي فإن سنة 2017 كانت السنة الأصعب فقد بلغ عدد الكفاءات المهاجرة ما يعادل 8 آلاف كفاءة. وتشمل هجرة الأدمغة أطباء وقضاة وأساتذة جامعيين وطلبة ومتفّوقين.
تحوّلت فجأة التحديات الكبرى للشعب التونسي وللشباب خصوصاً من بناء دولة جديدة وضمان مستقبل جيّد للأطفال القادمين وبعث اقتصاد قادِر على تحمّل ارتدادات أزمات الاقتصاديات العالمية إلى متابعة يومية لأسعار الفلفل والطماطم والتفاح التي اتخذت منها بعض القنوات برامج تبثّ يومياً. أسئلة كثيرة تُطرَح اليوم في تونس في ظلّ تواصل نزيف الاقتصاد والهجرة وعُقم المشهد السياسي، كيف يمكن أن تقنع مواطناً تونسياً بأن القادم أفضل، بينما فشلت 7 حكومات متعاقبة في أن تصلح وضع شركة عمومية واحدة مثل شركة الخطوط التونسية التي يصل فيها تأخّر مواعيد الرحلات في بعض الأحيان إلى أكثر من 4 ساعات والتي وصل سعر السهم فيها إلى 450 مليم أي 0.180 دولار، بعد أن كان سعر السهم قبل 20 سنة يتجاوز 20 ديناراً أي 8.33 دولارات. عندما ترى 4000 طبيب تونسي يهيمون في الشوارع للتظاهر من أجل المطالبة بحقهم في الحصول على شهادتهم العلمية التي هي في الأصل حق لا جدال فيه، وعندما ترى دكاترة في الفيزياء و الكيمياء يعتصمون في كلية صفاقس من أجل المطالبة بحقّهم في التشغيل، فلا أقل إذن من أن تصبح الهجرة حلاً مبهراً للشباب التونسي ولا أقل أيضاً من أن يصبح انتحار الأطفار حدثاً عادياً.