عمليات أوروبا واستراتيجيات التوظيف

استطاع الغرب أن يُوجِد التحوّل في أولويات الحركات الإسلامية، لكنه لم يستطع تغيير الوعي الجماعي الإسلامي في عمقه المعادي للغرب، رغم كل التناحر الأهلي الإسلامي من عام 2003 حتى الآن، لم يزل الغرب هو العدو الأصلي للأمة، والذي من خلال استهدافه تستطيع الحركات التي غرقت في أوحال القتال الأهلي أن تستعيد زخمها ومشروعيتها في نظر المسلمين، وهنا تكمن الخطورة الحقيقية للعمليات التي تحصل في أوروبا أو أميركا.

خطورة العمليات في أوروبا ليست من الناحية الأمنية بل في دلالاتها الاستراتيجية
ربما كان أول توظيف غربي لتيار إسلامي في مواجهة عدو مشترك هو الميزانية التي أقرّها جيمي كارتر عام 1978 بقيمة ستين مليون دولار لدعم الإسلاميين البشتون الأفغانيين لمواجهة النظام الأفغاني الشيوعي عبر القناة الباكستانية، والذي تُوّج لاحقاً بالدعم الأميركي للجهاديين الأفغان في حربهم ضد العدو السوفياتي.

تقييم هذه المقاربة الاحتوائية للتيار الإسلامي كان ذا مغزى تاريخي واستراتيجي كبير، حيث جمع بين ضآلة التكاليف وضخامة الإنجاز، فبالمقارنة مع حرب فييتنام دفعت أميركا تكاليف باهظة، قرابة ثلاثمائة مليار دولار وستين ألف ضحية وهزيمة مُنكرة، أما في أفغانستان فلم تدفع سوى ثلاثة مليارات دولار من دون أية ضحية بشرية وانتصار استراتيجي أثّر في موازين القوى وحسم نتيجة الصراع في الحرب الباردة.

نتيجة هذه التجربة، كانت الخلاصة أن الإسلاميين القابلين للتوظيف ثروة لا تُقدّر بثمن، وتم إرسالهم إلى الشيشان والبوسنة، كاستمرار لحركة التوظيف والاحتواء، لكن شيئاً ما أحدث خللاً في هذه المقاربة حيث أدى دخول القوات الأميركية إلى السعودية عام 1991 إلى انفصال بن لادن عن الحاضنة السعودية، وكان انتصار المقاومة في لبنان عام 1996 دافعاً لإعلان بن لادن الحرب على الولايات المتحدة، من خلال بيان إعلان الجهاد العالمي في العام نفسه والذي ابتدأه بعبارة طلب الثأر لأطفال مجزرة قانا في جنوب لبنان.

بدأ التحوّل الحقيقي مع عمليات القاعدة في تنزانيا وكينيا عام 1998 ضد السفارات الأميركية هناك، واختتم بعمليات الحادي عشر من أيلول عام 2001، والتي كان الرد الموضعي عليها في الحرب على أفغانستان في ذلك العام، والرد الاستراتيجي في الحرب على العراق عام 2003، حيث زُرعت بذرة الاقتتال الإسلامي الأهلي، وبدأ الزرقاوي حركته التي أدّت إلى تفسّخ تنظيم القاعدة وتفكّكه، والتي كانت ذروتها نشوء داعش التي قطعت شوطاً عن الزرقاوي في حصر العداء والقتال ضد العدو القريب.

سوريا 2011 كانت المحطة الأخيرة في مسار التحوّل نحو قتال العدو القريب، حيث أصبح الغرب حليفاً موضوعياً لبعض الحركات السلفية الجهادية، وحليفاً مباشراً لبعضها الآخر، لكن المفاجئ خلال السنتين الأخيرتين عودة العمليات على الأراضي الأوروبية، والتي كان آخرها في بلجيكا، رغم أن التحالف الغربي لم يشن حرباً حقيقية على التيارات السلفية في سوريا والعراق، بالمقارنة مع ما قامت به روسيا خلال شهور قليلة، فيبدو المجهود الغربي هزيلاً و من دون أثر تقريباً، رغم ما يملكه الغرب من صلات إقليمية وسلفية وقدرة معلوماتية وتسلط إعلامي خصوصاً في مجال الإنترنت.

استهداف داعش للغرب كما يُجمع أغلب المحللين سببه الضغوط التي تتعرّض لها في الميدان، سواءً من قِبَل محور المقاومة مدعوماً من روسيا أم الضغوط الشكلية الغربية، فعند انحسار مناطق سيطرتها وسقوط مواقع استراتيجية لها في الأراضي السورية والعراقية، تلجأ إلى مهاجمة أهداف في الدول الغربية، لغاية استرجاع زخمها ومعنويات مقاتليها وقدرتها على الاستقطاب في مختلف أصقاع العالم الإسلامي.

استطاع الغرب إذاً أن يُوجِد التحوّل في أولويات هذه الحركات، لكنه لم يستطع تغيير الوعي الجماعي الإسلامي في عمقه المعادي للغرب، رغم كل التناحر الأهلي الإسلامي من عام 2003 حتى الآن، لم يزل الغرب هو العدو الأصلي للأمة، والذي من خلال استهدافه تستطيع الحركات التي غرقت في أوحال القتال الأهلي أن تستعيد زخمها ومشروعيتها في نظر المسلمين، وهنا تكمن الخطورة الحقيقية للعمليات التي تحصل في أوروبا أو أميركا.

فخطورتها ليست من الناحية الأمنية فحسب، بل في دلالاتها الاستراتيجية، حيث أن كل التوجيه السعودي ـ الغربي نحو الاقتتال الأهلي لم يغّير من موقع الغرب في أنظار المسلمين، فلا بد من استهدافه لترميم صورة تيار هنا أو هناك، وإن كانت هذه العمليات محدودة الأثر على موازين القوى وقرارات الأطراف المُنخرطة في الصراع، فإن آثارها البعيدة المدى مُقلقة ومُخيفة للغرب، فسيأتي اليوم الذي يفكّر أحد الإسلاميين بتكرار تجربة بن لادن، وتوجيه السِهام نحو قلب العدو الأصلي، واستثمار الوعي الجماعي الإسلامي المعادي للغرب لبناء مشروع سياسي أو جهادي ما.

يعتبر البعض أن الرد الانفعالي هو الحل القادم، أي استهداف الغرب لداعش أو أي حركة تقوم بعمليات على أرضه، لكن ذلك سيكون استدراجاً لتلك الحركات إلى معركة جديدة مع الغرب وعودة إلى منطق العدو البعيد، معارك لم يعد الغرب مستعداً لدفع أثمانها التي جرّبها في العراق وأفغانستان. لذلك سيكون الرد المزيد من التوجيه والدفع نحو الاقتتال الإسلامي الداخلي وإثارة الفتن من كل الأشكال والألوان، فبنظر الغرب لن يكون الإسلاميون يوماً أصدقاء حقيقيين.