رُهاب الشعبوية ونضال الدّهس بالشاحنات

هل المطلوب من الألماني أن يُبقي نظرة الحنان والأمل في عينيه ويُعيد انتخاب ميركل كي لا يصبح شعبوياً عنصرياً ترامبياً منتظراً شاحنة أنيقة كي تدهسه أو طلقة رحيمة في مباراة كرة قدم.

لا تبدو الشعبوية بوصلة مُخطئة فهي تفضح ثقافة الإنسان
أطنان من المقالات وتلال من الكلمات المكوّمة على عجل في الصحف والمجلات العربية تحكي (حكي فقط) عن الشعبوية وكأنها غيث، قطر من السماء كي يسقي الأقلام بحبر سحري يجعلها تكتشف هذه الظاهرة العجائبية التي نبتت في الغرب، في تمهيد واضح لمماثلة الشعبوية الغربية بالشعبوية "العربية". إذ غاب عن إذهان الكتبجية والصحفجية والمفكرجية لوقت طويل، أن هناك شعبوية محلية تتمثّل في الأداء الثقافي/السلوكي لأعضاء التجمعات السكانية "العربية" في عدم مقدرتها الانتظام بأية عملية مجتمعية، أو الانتصار في أيّ تحد عُرض عليها بغضّ النظر عن الملاءة المالية أو الفقر الاصطناعي الناتج من وهن الإنتاج.

منذ انتخاب ترامب وهجاء الشعبوية حاضر في التحليلات السياسية والشبه اجتماعية، وبدأ هؤلاء الكتبة تنبيه أوروبا نفسها من مجيء اليمين المتطرّف في غير "قُطر" أوروبي شقيق، في هجاء لاذع لأداء "الغرب" السياسي والاجتماعي وفي تذكير شامت لخطاياه الاستعمارية الكولونيالية و الاقتصادية والفكرية، مُتناسين شعبويتنا الفضائحية المتجذّرة في أفعالنا وردود أفعالنا وأقوالنا وعدم أقوالنا أيضاً؟

ربما كانت الشعبوية كما فهمتها من كتاّبنا الأشاوس، هي تأثير العامة في القرار العام، مبنياً على فهم هؤلاء "البسيط "لهذا الشأن العام ،وكأنه حق طارئ لهم في منظومتهم الحقوقية، فردود أفعال الأميركيين تجاه حملة ترامب كانت بسيطة ،وليست تبسيطية أو سطحية، فما يعانيه المواطن/الناخب الأميركي هو أدرى بشعابه، وإذا كانت شعارات ترامب عنصرية كما فسّرناها نحن، فهي بالنسبة للمواطن الأميركي مصلحة عيش وحياة، وهم أدرى إذا كان المكسيكيون أو اللاتينيون (والتعميم قتال) يشكّلون عصابات إجرامية أم لا. وبالتالي وبناء على هذا المثال سيتّخذون موقفاً انتخابياً شعبوياً كان أم نخبوياً، فمصلحة الحياة عندهم هم هي المهدّدة ، وهنا لا يمكن المساواة بين الشعبوية "الغربية" (التي فشلت في النمسا مثالاً ولم يمتدحه إلا النذر القليل) والشعبوية المحلية التي أنتجت إرهاباً (بغضّ النظر عمن يديره ويوظّفه). هذا الإرهاب هو خلاصة الأداء الشعبوي العربي شئنا أم أبينا وانظروا إلى خريطة العالم العربي قبل أن تنتقلوا إلى الأداء الشعبوي العربي في الغرب، ولا أخصّ هنا جميع مظاهر الشعبوية الواضحة والناضحة من كل أداءات العرب اللاجئين أو المهاجرين أو البين بين، ولكني أخصّ هنا ظاهرة الإرهاب الذي نهدد نحن (ككتبجية وصحفجية) كل من تسوّل له نفسه بانتقاده بأنه مصاب بمرض الشعبوية الغربي العنصري الحاقد.

ماذا فعل الشعب الألماني للمهاجرين واللاجئين؟ ماذا فعلت أنغيلا ميركل لهؤلاء حتى يكافئوها بتحويل شاحنة في خدمة الإنسان إلا أداة قتل؟ وماذا عن موقف الشعبويين الغربيين، هل عليهم تأييد ميركل التي تدلّل القتَلة على حساب دافعي الضرائب؟ أم عليهم الترفّع عن الأسئلة التي تخصّ مصلحتهم بالحياة؟

أوروبا مليئة بالمافيات الإجرامية من كافة "الهويات القومية" وهي مافيات عنيفة وإجرامية وشعبوية ،ولكنها لا تشبه بأيّ وجه من وجوهها الإرهاب الديني وهو معروف للقاصي والداني، ومن المؤكّد أن هناك من أهل البلاد أو الناخبين من له رأي فيه وموقف منه، فهل يتحوّل إلى شعبوياً عنصرياً ترامبياً، لمجرّد أن يدافع عن مصالحه الحياتية على قد فهمه لها ومعرفته بها؟ وعلى قد استيعابه لظاهرة العنف الديني هذه ،وماذا لو تفجّر هذا الصراع "الشعبوي" دموياً  بين أهل البلاد والوافدين؟ فهل لأصحاب البلاد الحق بالدفاع عن مصالح عيشهم من دون أن يتّهموا بالشعبوية والعنصرية؟ أم عليهم أن يخجلوا من أنفسهم ويرفضوا العنصرية مهما بلغ الثمن؟  على أرض الواقع لم يدافع اللاجئون أو المهاجرون عن البلاد التي استقبلتهم أو عن الأوطان الجديدة التي اختاروها، وربما ازدادوا تمسكاً "بالحق" وتأييداً للقتلة، وهذا ما تمت ملاحظته من الحوادث المؤسفة السابقة، كان التوجّه العام بين ظهرانينا هو إدانة الضحايا. حتى في طرائق التعبير عن إدانة المقتلة التي تحصل، جعلنا من الضحايا هم من تسبّبوا بمقتل أنفسهم  لإنهم لم يراعوا حرية الآخر بقتلهم. والآن ماذا فعل الـ82  شهيداً في نيس أو الـ12 في برلين كي يلاقوا هذا المصير الموت دهساً مع أنهم لم يخالفوا حتى أنظمة المرور؟ أوليس هناك من سبب واضح يمكن إعلانه على رؤوس الأشهاد نعرفه جميعاً ونكتمه في حنايا خوفنا الغريزي؟ هل هو الخجل من رأينا وموقفنا من احترام الحياة الإنسانية، أم هو القناعة العميقة بحق هؤلاء القتلة بدخول الجنة؟

لا زلت أذكر تلك الاحتفالات الشعبوية ابتهاجاً بمقتلة 11/9 في منهاتن، ولا تزال كلمات " الله حيو...الله حيو" من أمرأة كردّة فعل فرح وانتصار على مقتلة مترو باريس، وأكتشفت لاحقاً أنها تحمل الجنسية الفرنسية، وأتذكّر كل عبارات (الله لا يردّهن) تعليقاً على حادثة مدريد والخ الخ من هذه الحفريات التبسيطية، لإضاءة بنية التركيبة الثقافية التي نمارس من خلالها سلوكنا الحضاري، واليوم ومن دون أن نسأل عن مصير أكثر من مليون لاجئ ومهاجر غير شرعي عربي الذين سيتأذّون حكماً من "غزوة برلين" المظفّرة، هل من الطبيعي أن يكونوا بأمان؟
هل المطلوب من الألماني أن يُبقي نظرة الحنان والأمل في عينيه ويُعيد انتخاب ميركل كي لا يصبح شعبوياً عنصرياً ترامبياً منتظراً شاحنة أنيقة كي تدهسه أو طلقة رحيمة في مباراة كرة قدم.

لا تبدو الشعبوية بوصلة مُخطئة فهي تفضح ثقافة الإنسان كما هي في الواقع، حتى لو كانت تثير بعض الخجل، فالكثيرون ممن أنتخبوا ترامب كانوا خجلين باختيارهم له وكاتمين هذا الاختيار، والتحليلات تقول أنهم أختاروه لمجرّد دخولهم الغرفة السرّية، لتثبيت أسم مرشّحهم أي عند الفعل الحقيقي المؤثر . ترى هل هذه الخصلة هي خصلة تأسيسية في ظاهرة الشعبوية؟ يا للمصيبة إذا كانت كذلك، وهي كذلك عندنا.