حديث حول الثورة العُرابية
قد يهاجم البعض الثورة العُرابية والثورات عموماً متفقاً مع وجهة نظر غوستاف لوبون في كتابه "روح الثورات " حول أن التبدّل و التقدّم سنّة طبيعية من سُنن الحياة تحدث غالباً ببطء، وتجيء الثورات لا تسرّع التقدّم بل لتدمّر أو تُرجع إلى الخلف. مهما كان الأمر فقد نعى الأستاذ نجيب محفوظ البطل عُرابى أمام العرش على لسان إخناتون و إيزيس قائلاً : لقد جرت عليك النهاية المقدّرة للقلوب الطيّبة.
تكتسب الثورة العُرابية فرادتها لا من حيث أنها أحيت الروح القومية لدى المصريين فقط ولا حتى من كونها أول محاولة في تاريخ مصر الحديث لإقامة الجمهورية ( فالأستاذ لويس عوض يرى أن حركة همام كانت محاولة سابقة كمنت فيها بذور الجمهورية )، فالثورة العرابية –ككل الثورات- كانت إبنة عصرها ، و بالتالى فهي وليدة ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية تكتسب منها تميّزها واختلافها عن غيرها وكل نوع من هذه الظروف يمثل مدخلاً مختلفاً لتفسير الثورة ما يؤدّي إلى تباين الآراء و الأطروحات المتناولة للموضوع الواحد(الثورة) . فالظرف السياسي الذي أدى إلى ثورة يوليو سوف يتحدّث مثلاّ عن الاحتلال الإنكليزي وهزيمة فلسطين، بينما يتحدّث الظرف الاقتصادي عن التفاوت الطبقي وسوء توزيع الثروة ومجتمع النصف في المائة، بل إننا نجد تفسيراً ديموغرافياً للثورات لدى عالم الاجتماع جاك جولدستون استخدمه كسبب رئيسي في قيام الثورة الإنكليزية في القرن السابع عشر حيث تؤدّي الزيادة السكانية إلى عدم الاستقرار السياسي مُتسبّبة مع الضرائب المرتفعة – خاصة على الطبقات الفقيرة – في حدوث هبّات شعبية ، وهو ماحدث في حال الثورة الفرنسية وثورتنا التى نتحدّث عنها هنا، ربما كان هذا من أسباب تأثّر الزعيم أحمد عُرابي بالثورة الفرنسية،إلا أنه يوجد اختلاف رئيسي وبسيط بين الثورتين فالأولى أدّت إلى سقوط الأرستقراطية ، وهو ما لم يحدث في الثانية بسبب التدخّل العسكري الإنكليزي.
لا يمكن فهم الثورة العُرابية من دون فهم الأوضاع السابقة والمسبّبة لها في نفس الوقت وهذا يقودنا إلى فهم تكوين الطبقة الحاكمة التي لم تكن كلاً متجانساً، 1- فالأمراء المصريون من أصل عثمانى كان يتواجد في داخلهم تيّاران رئيسيان أحدهما يناصر النفوذ الأوروبي والتكامل الاقتصادي مع أوروبا والآخر يؤيّد تبعية الطرف للمركز العثماني، وبحلول سبعينات القرن السابع عشر كانت هذه الطبقة تتملك حوالى ربع الأراضي الزراعية، 2-الشراكسة الذين نالوا حريتهم بعد سلبهم أرقاء من القوقاز ، وتولوا مناصب هامة في الجيش و الإدارة كان بعضهم مؤيداً للطبقة العثمانية الحاكمة ، والآخرون مندمجون في الطبقة المتوسطة المصرية، 3-والأعيان المصريون من كبار مُلاّك الأراضى الزراعية ومن الإداريين وكبار العلماء ،4- لايمكن تجاهل الجاليات الأوروبية التي شكّلت حصان طروادة المُمهّد للاحتلال البريطاني، كان عدد الأوربيين العاملين لدى الحكومة المصرية في أوائل ثمانينات القرن التاسع عشر حوالى 1300 موظف، 5- الشوام المهاجرون الذين لعبوا أدوارا اقتصادية وثقافية هامة في مصر منذ القرن18 و كان كثير منهم بمثابة الكومبرادور للاقتصاد الأوروبي العالمي فكان من الطبيعي أن يعارضوا الحُكم المُطلق للخديوي ، إذا ما يجمع العناصر السابقة (مع الخديوي بالطبع) هو الموقف المناهض لكل ثورة تهدّد مصالحهم باستثناء شرائح فرعية مثل التيّار الثاني من الشراكسة والبورجوازية الريفية المتصارعة مع الأمراء، كذلك كان الفاعلون الثوريون من مشارب مختلفة وبالتالى كانت أسبابهم بالضرورة مختلفة وإن كان يجمعها : 1- العامل الاقتصادي الاجتماعي كالفلاحين الذين عانوا من مُراباة اليهود واليونانيين، وطوائف الحِرَف و الصنّاع الذين شعروا بالظلم من منافسة العمال الأوربيين لهم والاختراعات التكنولوجية، كما أن ازدهار ثم ركود مبيعات القطن المصري منذ أواخر خمسينات القرن التاسع عشر حتى قيام الثورة العُرابية أعاد إلى الأذهان نظرية المنحني التى تقول أن الثورات تقوم بعد فترة من الإزدهار (حيث تتعاظم الآمال ) يعقبها هبوط اقتصادي ( حيث يتفجّر الغضب)، أو2- العامل الوطني الثقافي ممتزجاً بالمصالح الاقتصادية كالإنتلجنسيا من أبناء البلد الشاعرة بالاضطهاد من المنافسة الأجنبية في الوظائف الحكومية أو بالغضب من الحال السياسية العامة حيث أزمة الديون وتزايد النفوذ الأجنبي والحرب الإثيوبية عند منابع النيل (الأخيرة بالتحديد خلقت تياراً غاضباً في الجيش من سوء إدارة الخديوي إسماعيل لاسيما بين صغار الضباط المصريين) لذلك كانت الثورة العُرابية ثورة متعدّدة الطبقات وإن تشابك فيها الصراع الطبقى داخلياً مع أهداف الحركة الوطنية إقليمياً.
بعد أن حاولت توضيح كل من التكوينين ( الثوري و المناهض للثورة) مُلمحاً بين ثناياه إلى الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، أحاول أن أوضح جانباً آخر من المشهد الثقافي الاجتماعي الذي اتّسم1- بتحُسن انتشار القراءة والكتابة، 2- وتطوّر الوعى بفضل التلغراف وتطوّر وسائل المواصلات وطباعة الصحف والكتب، فلا ننسى أن أفكار العثمانيين الشباب(كان منهم شقيق الخديوي إسماعيل منفياً) المنادية بالإصلاح الدستوري نجحت في التسلّل إلى مصر وخلق تيّار سياسي ثقافي مؤيّد لهم، كما لا ننسى صحفاً مصرية كثيرة مثل المحروسة والعصر الجديد لسليم النقاش والوطن والأهرام والاسكندرية والبرهان والحجاز والتنكيت والتبكيت لعبدالله النديم خطيب وأحد أبطال الثورة العُرابية ، والذى سوف تتذكّره إذا قرأت شهادة هنري ترويا في حق تشيكوف " إن قراءته تشبه القيام برحلة في أرجاء روسيا في أواخر القرن التاسع عشر برفقة دليل هادئ نقيّ التفكير، تعرف منه كل ما هنالك " 3-الهجرة من الريف إلى المدينة، 4- الجمعيات السرية والمحافل الثقافية مثل جمعية حلوان والمحفل الماسوني ومصر الفتاة. هذه العوامل لا تخلق ثورة بمفردها بالطبع ولكنها ترفع نسبة الحراك الاجتماعي، يكفي أن العامل الثالث كان عالم الاجتماع أنطوني جيدنز يقول فيه " لاتظهر المدينة كحاوية لسلطة الدولة فقط لكن كمولّد محتمل لنشاط معارض أو معادٍ لها " ، وربما كان اعتناق أغلب المصريين للمذهب الشافعي والمالكي نوعاً من المقاومة الثقافية للطبقة الحاكمة المعتنقة للمذهب الحنفي تأثراً بالمركز التركي.
ولكن ماذا عن التدخل العسكري الأجنبي ( كان الأسطول الفرنسي متظاهراً أمام الاسكندرية ، لكنه انسحب تاركاً التدخّل للإنكليز )، قد نفهم الصورة بشكل أفضل، ونفهم لماذا ضربت الثورة العُرابية إذا عدَدَناها خطراً على الرأسمالية العالمية وقتها ، وهذا ما تكرّر في ثورة 19، وفي ثورتى يوليو ويناير، أما الباب العالي فقد اعتبر الثورة خطراً على الإمبراطورية منذ اللحظة الأولى ، فأصدر فرمانه بعزل عُرابي توقياً من انتشار الثورة إلى باقي الولايات العثمانية.
قد يهاجم البعض في ختام القول الثورة العُرابية والثورات عموماً متفقاً مع وجهة نظر غوستاف لوبون في كتابه "روح الثورات " حول أن التبدّل و التقدّم سنّة طبيعية من سُنن الحياة تحدث غالباً ببطء ، وتجيء الثورات لا تسرّع التقدّم بل لتدمّر أو تُرجع إلى الخلف . مهما كان الأمر فقد نعى الأستاذ نجيب محفوظ البطل عُرابى أمام العرش على لسان إخناتون و إيزيس قائلاً : لقد جرت عليك النهاية المقدّرة للقلوب الطيّبة.