الظرف التاريخي للثورة الصناعية في الغرب

يمكن القول أن الثورة الصناعية كانت من أكثر الأحداث تمفصلاً في تاريخ البشرية، فلم يكن غريباً أننا مازلنا نعايش آثارها حتى اليوم.

الثورة الصناعية كانت من أكثر الأحداث تمفصلاً في تاريخ البشرية
 

الثورة الصناعية فى أوروبا- قبل إنتقالها إلى أميركا و اليابان-  أفرزت تغيرات في الخريطة السياسية الإجتماعية للمجتمع الأوروبي، وأدّت إلى صعود قوى إجتماعية جديدة مثل البورجوازية الصناعية والطبقة العاملة (البروليتاريا) وكانت سبباً في ظهور أحداث سياسية هامة غيّرت وجه التاريخ كالثورة الفرنسية الكبرى والثورة الأميركية. لذا أطلق إيريك هوبزباوم تعبير الثورة المزدوجة على الثورتين الصناعية و الفرنسية. كما أنها حفزت عدداً كبيراً من المفكرين و الفلاسفة على دراسة أسبابها و آثارها التي  ما زالت تؤثر فينا حتى الآن.

 

لا يوجد اتفاق على تاريخ إندلاع هذه الثورة، فبينما يتفق معظم المؤرخين على منتصف القرن الثامن عشر تاريخاً لهذه الثورة، نجد أن المصطلح تم إستخدامه في عشرينيات وثلاثينيات القرن الثامن عشر. وفي عوامل قيامها لا يمكن إرجاع ذلك إلى الإختراعات العلمية والفنية بمفردها ( إكتشاف البخار كقوة محركة 1784م مثالاً)، فقد كان تراكم رأس المال نتيجة للغزوات الإستعمارية لإنجلترا و فرنسا وهولندا، وقبلهم البرتغال وأسبانيا وما تبعه من نهب للشعوب المستعمرة، عاملاً مهماً ورئيساً فى تمويل الإستثمار الصناعي في صناعات القطن (أولى الصناعات الحديثة حيث بلغ عدد براءات الإختراع في أول عقدين من القرن التاسع عشر 39 براءة إختراع) والحديد وشراء المواد الخام وتأجير القوى العاملة، كما كان عاملاً مهماً في بدء تكوين سوق عالمية إزدادت شراهة وتوسعا مؤدية بالتأكيد إلى تحفيز الإبتكار والإكتشاف. 



لذلك نستطيع أن نقول أن عاملي الإختراعات العلمية والفنية و تراكم رأس المال يغذي كل منهما الآخر. فتراكم رأس المال واتساع السوق وتوافر المواد الخام وازدياد حجم المدن الصناعية أدى إلى زيادة الإستهلاك وزيادة الطلب، ما أدى بدوره إلى التطوير الفني لوسائل الإنتاج، الذي يرفع الإنتاجية موسعا بالتالي من حجم السوق و التراكم الرأسمالي وهكذا.

 

كان التطور في مجال الزراعة ظالما لصغار ملاك الأراضي الزراعية والفلاحين المستأجرين، لكنه عامل ثالث في قيام الثورة الصناعية. فهو ظالم لإرتباطه بحركة تسييج الأراضي(بدأت في بريطانيا) التي تسببت في فقدان الملاّك الصغار والفلاحين لأراضيهم بعد أن كان نظام الحقول المفتوحة والأراضي المشتركة سائداً. فهذه الأرض كانت ملكاً لسيد المقاطعة الذي يتنازل عنها ليقوم الفلاحون بزراعتها أو برعي الماشية أو صيد السمك فيها. 



أما نظام الحقول المفتوحة فلم يكن مشاعاً وإنما كان يقوم على الملكية الفردية وتقاسم الأرض خلال السنة لزراعة المحاصيل (ثلاثة في الأغلب) عليها ليحصد المالك محصوله. 


لكن قوانين التسييج سمحت لكبار الملاك بتجميع الأراضي الزراعية وإقامة سياج عليها ليمارس المالك الكبير عليها كافة حقوقه، بعد إنهاء عقود الإيجار لصغار المزارعين أو شراء الأراضي من الملاك الصغار. 



وكان هذا التطور عاملا مهما في قيام الثورة الصناعية لأن تطور أساليب الإنتاج الزراعي ساعد على تطويرالصناعة. كما أن الأموال العائدة من الإستغلال الزراعي كانت تذهب لتمويل الإستثمار الصناعي. كذلك كانت جيوش المزارعين الصغيرة والتي تم تشريدها بسبب حركة الأسيجة مغذياً للأيدي العاملة الصناعية الرخيصة التي ساهمت ونتجت في نفس الوقت عن الثورة الصناعية، بهذا نستطيع أن نقول أن الأسباب الثلاثة السابقة (مع تطور البنوك ووسائل النقل) كانت العامل الإقتصادي الحاسم في حدوث الثورة الصناعية.

 

كان العامل الثقافي الفكري بمثابة أرضية هامة قامت عليها الثورة الصناعية، وكان ممثلاً في 1- أيدلوجيا التنوير الثورية التي تقوم على العقلانية والمدنية والفردية وحرية الفكر والسيطرة على الطبيعة والإيمان بالعلم و المعرفة. ولعبت بعض الجمعيات دوراً هاماً في نشر هذه الإيدولوجيا مثل الجمعية القمرية التي ضمت "جميس وات" مخترع الآلة البخارية وأيضاً جد "تشارلز داروين" وآخرين من نخب المجتمع من المؤمنين بالصناعة و التحديث. 


2- مع حركة الإصلاح الديني ( عند كالفن بالتحديد الذي كان متسامحا مع القروض وأعمال البنوك)، كذلك لايمكننا تجاهل أفكار "مونتسكيو" في كتابه روح الشرائع عن القانون الطبيعي الذي تسير وفقه المجتمعات. فقامت الليبرالية الإقتصادية خاصة عند الفيزيوقراط على هذه الفكرة مشجعة على تطور الثورة الصناعية ومثبطة في نفس الوقت من تدخل الدولة في الإنتاج.

 

أما تداعيات الثورة الصناعية فقد كانت متعددة. إلاّ أن الأثر الإجتماعي يظل أهمها على الإطلاق، فقد رأينا مولد الرأسمالية الصناعية التي كانت الصناعة بالنسبة لها بمثابة صالة القمار التي يغامر فيها التجار وأصحاب الثروة لتطبيق الإختراعات العلمية والفنية صناعياً، وجني الأرباح من هذه المغامرة، كما رأينا ظهور البروليتاريا التي تمتّ التضحية بها من أجل إقامة المجتمع الليبرالي، والتي عانت كثيراً من عسف الرأسمالية، فكان العامل في فرنسا يتحرك بما يعرف " دفتر العامل"، وإذا تعنت معه صاحب العمل ورفض إعطاءه له يعتبر متسولا يحق القبض عليه، فلا يستطيع العامل الحركة أو الإنتقال إلى مكان عمل جديد بدونه، وهذا المناخ من العسف والإضطهاد كان مؤدياً لتنامي الوعي الطبقي والثورة بين أبناء الطبقة العاملة على الرغم من عدم حدوث درجة عالية من التركز الصناعي (وهو ما خالف إعتقاد ماركس)، كما كان مؤدياً بالتالي لظهور الأفكار الإشتراكية ومنظريها أمثال شارل فورييه، لويس بلان، سان سيمون، برودان ، كارل ماركس، روبرت أوين.

 

كذلك رأينا أثراً سياسياً هاماً للثورة الصناعية، حيث أصبحت أميركا بحلول خمسينيات القرن الثامن عشر منافساً حقيقياً لبريطانيا، وكانت على إقتراب من إمتلاك أضخم أسطول تجاري في العالم حوالي 1860م لولا إكتشاف البريطانيين للسفن الحديدية.


كما كان تطور العلوم الطبيعية والإجتماعية أثراً مباشراً للثورة الصناعية، فإن كانت فيزياء نيوتن لم يحن وقت ثورنتها بعد، إلا أن الكهرباء قفزت قفزتها الواسعة على يد غالفاني وفولتا وفارادي، كذلك تطورت الكيمياء والرياضيات والبيولوجيا، وشهد علم الإجتماع الوضعي مولده على يد أوجست كونت.

 

وبذلك يمكن القول أن الثورة الصناعية كانت من أكثر الأحداث تمفصلاً في تاريخ البشرية، فلم يكن غريبا أننا مازلنا نعايش آثارها حتى اليوم.