الجزائر.. الموقف الثابت، والفعل المتحرّر

ثمة محطات تحكم هذه العاطفة، محطة دينية لها جذورها التاريخية في المحيط الإجتماعي الجزائري ومحطة تربوية ترصد تلقائياً حركة الفرد الجزائري، ولها تراكمات ضخمة معرفية ومهنية..ومحطة ثالثة تبدو الجزائر فيها متينة اجتماعياً ومتماسكة أخلاقياً.. ربما تم ذلك على شكل عقد اجتماعي غير مُبرم وغير مكتوب بين الحاكم والمحكوم..فالحاكم في الجزائر ليست لديه قصور يسكنها إن في الداخل أو في الخارج. بل هو هنا مثل عامة الشعب.

الثورة كان ضلعها الأهم الإسلام وهدفها استرجاع السيادة لنعمل بهما سوياً كما عملت بهما لالة فاطمة نسومر والأمير عبد القادر
في هذا المقال أعود إلى الذاكرة وبعض ما سجّل فيها من مواقف تعطي بصيصاً من الوضوح على الأقل لمعرفة طبيعة الشعب الجزائري وحكامه، ولماذا لم يتم اختراقهما لحساب أجهزة أجنبية. ومن خلال ذلك يمكن الإجابة  بمبادئ  ومواقف الجزائريين عن سؤال مهم ظل يتردّد في دوائر صنع القرار السياسي وفي دول عدّة وحتى في قناة الميادين، مفاده  لماذا ظلت الجزائر بعيدة عن "الربيع الدموي" وهي كانت ضمن خطوطه العريضة في الدوائر المغلقة لاعتبارات تاريخية، وسياسية، واقتصادية، باعتبارها أيضاً بوابة إفريقيا وقلب شمالها. وسأكون عاطفياً إلى حد ما، ولكن ليس على حساب الحقيقة أو إلغائها بل من مواقف إنسانية ربما لا تتكرّر في التاريخ.. ثمة محطات تحكم هذه العاطفة. محطة دينية لها جذورها التاريخية في المحيط الاجتماعي الجزائري  ومحطة تربوية ترصد تلقائياً حركة الفرد الجزائري، ولها تراكمات ضخمة معرفية ومهنية..ومحطة ثالثة تبدو الجزائر فيها متينة اجتماعياً ومتماسكة أخلاقياً.. ربما تم ذلك على شكل عقد اجتماعي غير مُبرم وغير مكتوب بين الحاكم والمحكوم..فالحاكم في الجزائر ليست لديه قصور يسكنها إن في الداخل أو في الخارج. بل هو هنا مثل عامة الشعب.


المحطة الأولى : كانت المجاهدة الرائدة في الجهاد والمقاومة لالة فاطمة نسومر (فاطمة سيّد أحمد). انطلقت من الزاوية(الزاوية الرحمانية) التي تعلّمت فيها القرآن الكريم  ومنها تحوّلت إلى أشرس مقاومة للاستعمار الفرنسي وأسقطت  في معركة 18 تموز/ جويلية 1854 أكثر من 800 قتيل منهم 25 ضابطاً فرنسياً بينهم عشرة جنرالات. ما أدى بالسلطات الفرنسية وقتها إلى تجنيد جيش معتبر قوامه(45000) بقيادة الماريشال" راندون" وبمؤازرة الماريشال "ماك ماهون"  ليقابل جيش لالة فاطمة نسومر الذي لا يتعدّى  7000 متطوع وكان عمرها أقل من عشرين سنة (توفيت وعمرها 33 سنة)..كانت مؤمنة حد التصوّف وملتزمة إلى أبعد الحدود وفاعلة بوجدانها الديني في ما يبدو شبيهاً بذلك الوجدان الذي تحرّك به شهداء بدر، وهي من سكان بلاد زواوة (القبائل الكبرى) أي أمازيغية، ومن عمق الأمازيغ . لقد رفضت الزواج لأجل القضية والمقاومة.. وفي النهاية هي جزائرية حرّة أصيلة..وقتها كانت فرنسا تضع الخطط لنظرية (فرّق تسُد) فجاءها الرد سريعاً من لالة فاطمة نسومر" نحن أمة واحدة عربنا الإسلام..."اشتعلت المقاومة الجزائرية بالجميع وبكل الطوائف، إذ لا فرق بين من يحمل ثقافة أمازيغية أوغيرها. فالهوية واحدة وهذا هو الأساس وهذا هو المهم.


 

المحطة الثانية: جاءت ثورة التحرير بعد أكثر من  125 سنة من المقاومة، وانتهت لاحقاً بالانتصار على أعتى قوة وقتها وبقيادة الحلف الأطلسي. فظهرت بعد انتصار الثورة مباشرة أغنية، أو مديح ،أو نشيد، سمّه كما شئت  بعنوان   (محمّد مبروك عليك..الجزائر رجعت ليك) ومؤلّفها ومغنّيها أمازيغي حر ومن بلاد القبائل الكبرى واسمه(.عبد الرحمان عزيز.). الأغنية أعطى فيها صاحبها قوة الانتصار والاستشهاد في الثورة التحريرية لرسالة محمّد صلّى الله عليه وسلّم،  بتوضيح آخر إلى الإسلام، وتنتهي بجملة تقديس الانتماء للأمّة العربية (وعلى قبري تكتب بحروف عربية  تعيش الأمّة العربية).


.. في أواخر الثمانينات رسبت في امتحان شهادة البكالوريا ابنة الرئيس الشاذلي بن جديد فأراد طاقم الثانوية إنقاذها بتسليم الشهادة لها. وبعد استشارة الرئيس رفض وقال لهم( تعيد السنة مثل زميلاتها من غير الناجحات) كان الموقف رهيباً  حسب مدير الثانوية. لقد ترجم بموقفه هذا المساواة والعدل بين الحاكم والمحكوم ترجمة تربوية لتكون عبرة للآخرين. فالعمق الديني الذي أحدث هزّة في وجدان الجزائريين له خلفيات وإبعاد حضارية. مند اعتناق الجزائريين الإسلام ساهموا بنشره ابتداء على يد طارق بن زياد كما أوجد روحاً من نوع آخر  تتفاعل مع يقينياته بشكل ملفت وربما بعصبية حادّة.


المحطة الثالثة:  بعدها ببضع سنين  جاءت ملتقيات الفكر الإسلامي بإدارة وزارة الشؤون الدينية والأوقاف  وبمباركة من الرئيس الراحل هوّاري بومدين. وكانت مفتوحة على كل المذاهب الإسلامية فيأتيها العلماء من القارات الخمس. يتناولون القضايا الإسلامية بحرية مطلقة ومن دون رقابة من أية جهة،وتدوم سبعة أيام وبحضور ألف ومأتي طالب من كل مناطق الجزائر (على الدولة المبيت والمأكل وتذاكر سفر..) ويحضرها سنوياً علماء من الأزهر وبلاد الشام والحجاز وإيران..مثل  محمّد الغزالي، والقرضاوي، ورمضان البوطي و محمّد حسين فضل الله، وعلي التسخيري، وأبو زهرة، وعبد المحسن التركي ، والإمام موسى الصدر، والصواف، ووهبة الزحيلي  وعائشة عبد الرحمان وغيرهم. وكل محاضراتهم كانت تطبع وتوزّع مجاناً وكانوا كلهم محترمين يلتف حولهم الشباب ويستمعون إليهم ويخدمونهم حباً في العلم. وكانوا أيضاً يدرّسون في المساجد وقت راحتهم من دون تمييز. وقد دامت هذه الملتقيات أكثر من ربع قرن ولم يكن أي منا يعرف طائفة ومذهب عالم من هؤلاء كنا نعرف فقط العلم الديني من علماء نعدّهم من الأخيار.


إ الثورة كان ضلعها الأهم الإسلام وهدفها استرجاع السيادة  لنعمل بهما سوياً كما عملت بهما لالة فاطمة نسومر والأمير عبد القادر.  وتجلّى هذا واضحاً في مواقف عدّة ظهرت في هذه الملتقيات. ففي ملتقى بالا وراسي 1983 تقدّم الإمام محمّد الغزالي إلى المنصّة  ليلقي كلمة الترحيب بالرئيس الشاذلي بن جديد وضيوف الجزائر من العلماء، وقال بعد كلمة الترحيب (إن الحكام يظلموننا نحن العلماء)  فضحك الشاذلي بن جديد ورحّب بالكلمة وفجأة أصيب الشيخ الغزالي وهو يلقي كلمته بما يشبه الإغماء  فصعد الشاذلي بن جديد مسرعاً إلى المنصة ليساعده، وكان له ذلك. وهوعمل ربما قلّ نظيره في العصر الحديث،ففي الملتقى نفسه دخل الرئيس الشاذلي بن جديد مع مجموعة من العلماء على اختلاف مذاهبهم إلى قاعة صغيرة وهناك صدر بيان ( الوحدة الإسلامية)  وقد سمعت شخصياً من العلماء الذين يحضرون هذه الملتقيات قولهم المؤكّد بأنهم في الجزائر يتمتّعون بالحرية الكاملة في كل ما يؤمنون به وفي ما ينطقون. وبالفعل لم تكن هيئة تراقبهم أو تسيء إليهم بل كل الهيئات الأمنية تعمل ليل نهار لحمايتهم ومساعدتهم وكثيراً ما كانوا يضيفون في المنازل تبركاً بعلمهم...كان الإمام البوطي - شهيد المحراب- رحمه الله- يمشي بين الشباب مشية الملائكة بلباسه السوري، كان يدرّس في المساجد بعقل متميّز ويدعو الشباب إلى بناء علمه ومعارفه على قوة العقل والنظر إلى المستقبل بعيون الماضي، وكانوا يستمعون إليه وكأنهم أمام أحد كبار المصلحين من أتباع الأنبياء والرسل. ولم يقل يوماً ما انأ على مذهب ما ، بل يدعو إلى تحري العقل والأخذ  بالحيّز مما هو متاح  له في القرآن الكريم .. كنا نراه طائراً يحلّق بعقلة في رحاب المعرفة بمرتكزات قرآنية و مثله كان آخرون.


   كان الإمام  الغزالي -رحمه الله-(اضطهدته الوهّابية) يلقي حديث الإثنين لبضع سنوات في التلفزة الوطنية بحرية ومن دون أن يكتب شيئاً وكان- بالنسبة للجزائريين- سماع حديثه أمراً واجباً ومطاعاً . مرة  كنت في بجاية، خرجت من مكتبي لأجد الشارع فارغاً من المارّة  فسألت شاباً  هل هناك مقابلة رياضية مهمة اليوم..؟ فأجابني بلا، فقلت له لماذا الشارع فارغ فأجابني اليوم حديث الشيخ الغزالي. نعم كان الكل يسمعه وفيهم من يبكي وكأنه في محراب مريم العذراء، في اليوم الموالي سألت شيخاً طاعناً في السن هل سمعت الغزالي أمس فقال نعم، قلت كيف وأنت لا تفهم العربية فقال أنظر إليه لأنه من أهل الجنة وأتمنى بنظري إليه إن يأخذني معه إليها. فذهلت من كلامه. هذا التراكم الديني والإنساني يبدو أهم عامل وأساسي في حفظ الجزائر من كل المكايد التي دبّرت لها هنا وهناك. وهو صانع الفهم المسبق لكل من يريد شراً بالبلاد على المستوى الفردي أو على  مستوى الهيئات المكلّفة بالأمن. لقد حاولت مخابرات فرنسا من سفارتها جرّ الجزائر إلى الفتن الطائفية منذ استرجاع السيادة الوطنية  بواسطة (فرّق تسُد) ولم تنجح. وحاولت أمريكا بطرق ملتوية - المساعدة على محاربة الإرهاب - بالسماح لها ببناء قواعد لطائراتها من دون طيّار في الصحراء الجزائرية فباءت بالفشل لأن الخفايا كانت معلومة مسبقاً لدى الأجهزة الأمنية ورئاسة الجمهورية والشعب الجزائري. وحاول الموساد تجنيد أجانب ومنهم عرب عاملون في الجزائر ومنهم علماء دين من مصر، ولكن تم كشفهم. فالشعب الجزائري بعمقه الديني وقِيَم ثورته ودم شهدائه ملتزم بالدفاع عن هذا الإرث وهو إرث لم يأت من فراغ ومن دون تضحية ومجاعة. وما يُقال عن انتفاضات البربر اليوم هو قول مردود، فالأمازيغ هم أوائل المدافعين عن الهوية الوطنية. أما الهويات الثقافية فهي متروكة لكل جهة تعتز بجذورها الثقافية في إطار الإسلام. لكن وللحقيقة هناك بقايا ممن استخدمتهم القوى الأجنبية وسقطوا في الانتخابات التعدّدية السياسية التي تم إجراؤها منذ بداية الإقرار بالتعدّدية سنة 1989 .


    من هنا جاء موقف الجزائر مع كل الدول المناهضة للاستعمار، ومن هنا أيضاً رفضت وبحزم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول إلا في الإصلاح وبطلب من الإطراف المُتنازعة...ومن هذا المنطلق رفضت سحب سفيرها من سوريا رغم الضغوط التي مورست عليها من فرنسا وبعض الدول العربية وحتى من أمريكا..رفضت التدخّل العسكري في ليبيا لأن ما حدث في ليبيا شأن داخلي ولما تواطأت الدول عليها رفضت السماح لحلف " الناتو" استعمال أجوائها. ساهمت وبقوة بأجهزتها الأمنية وحتى مالياً في مساعدة تونس ضدّ الإرهاب.


   وقفت الجزائر  ولا زالت في الأزمة التي تعرفها ليبيا الشقيقة المواقف المشرّفة التي تنمّ عن مدى الإحساس بالظلم تجاه شعب ودولة رفضت الخضوع والمشي وراء صيحات أتباع أمريكا. ولم تجد من شرفاء هذه الأرض من يؤازرها ويقف إلى جانبها لأنها فعلاً تعيش تحت مطرقة الظلم والخارجين عن القانون والمبعدين فعلاً من ملكوت السماء. وقفت  الجزائر كعادتها وطبيعتها وتاريخها وشهدائها إلى جانب ليبيا ورفضت بقوة  فتح مجالها الجوي لطائرات الحلف الأطلسي، وأعلنتها صراحة  لكل صديق وعدو بأنها تحترم أخلاقها وتلتزم بمواقفها المعلنة والصريحة بأنها ترفض أي تجاوز سواء أتي من مجلس الأمن الدولي أو من غيره..لقد سقط القناع ألذي ظلّ يلبسه "ساركوزي" حين أعلنها صراحة بقوله" إنه استطاع أن يجنّد الجامعة العربية وبعض الدول العربية في هذه الحروب.